موقف حزين… قلب مطمئِن – آمال رغوت

ثبت في الصحيحين أنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، سألتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سؤالاً عجيباً غريباً، قَالَتْ: يا رسول الله: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟!

سؤالٌ مُفاجئٌ وصعبٌ على النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حيث بدأ يعود بذاكرته إلى السنوات الخالية، والأيام الماضية.

أيُّ يومٍ كان أشدَّ عليه مِنْ يومِ أُحُد، ذلك اليومُ الذي قُتل فيه سبعون من أصحابه، ومُثلت بجثثهم، وبُقرت بُطون كثيرٍ منهم.

ذلك اليومُ الذي شُج فيه وجهه، وكُسرت فيه بعض أسنانه، ودخلت الحديدةُ الواقية في رأسه.

فإنْ لم يَكُنْ هذا اليومُ أشدَّ يومٍ مرّ عليه، فرُبَّما يكون يومَ الخندق، الذي قال الله تعالى فيه، حاكياً حال المؤمنين يومها، وما هم فيه من الشدَّةِ والخوف والأذى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا).

فهل هناك يومٌ كان أشدَّ عليه -صلى الله عليه وسلم-، من هذين اليومين؟!

نعم، إنه يوم العقبة، قَالَ -صلى الله عليه وسلمَ- مُجيباً على سُؤالها: ” *لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ -أي: لقيت منهم العناء والشدَّة والأذى- وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ”.

وهو اليوم الذي وقف -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة، التي بمنى، يدعو الناس إلى الإسلام، فما أجابوه، بل آذوه وسبُّوه، فذهب إلى الطائف علَّه أنْ يجد آذاناً مصغية، وقلوباً واعية.

قال: “وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ، بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ”.

بأبي وأمي انت يا رسول الله.

وصلوات ربي وسلامه عليك كلَّما ذكرك الذاكرون، وصلوات الله وسلامه عليك، كلما غفل عن ذكرك الغافلون، اللهم احشرنا في زمرته وتحت لوائه، وأوردنا حوضه الذي لا يظمأ مَن شرب منه، إنك ربي انت الجواد الكريم.

أو ليست هذه قمة الحزن وقمة الإيذاء؟؟!!

بعد هذا الأذى النفسيِّ والجسمانيِّ، رجع مِنَ الطَّائِفِ إِلَى مَكَّةَ حَزينًا كئيباً

لم تنته تفاصيل الموقف بعد؛

قال -صلى الله عليه وسلم-: “فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، أَيْ سرتُ دون شعورٍ لأيِّ جهةٍ سأتجه، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ”، أي: لم أنتبه حتى وصلتُ إلى قَرْنِ الثَّعَالِبِ، وهو المعروف بالسيل الكبير، الذي هُوَ مِيقَات أَهْل نَجْد.

ولنا أن نتخيل هذا الهمَّ الشديد، الذي جعله -صلى الله عليه وسلم-، يمشي هذه المسافة الطويلة، وهو لا يشعر بسيره.

ولنا ان نتساءل ايضا هل يطمئن قلب في خضم هذه الأحزان؟؟!!

والجواب…..والجواب…

نعم وكيف لا يطمئن وهو الذي ناجى ربه في اشد المواقف وأحلكها؟ 

“اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟! إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَم إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ*”.

هل يطمئن قلب في خضم هذه الشدة؟؟!!

والجواب…..

نعم يطمئن…وهو الذي وجد للانتقام سبيلا فرفضه وردّه..

نعم يطمئن وهو الذي ترك الظلمة حوله وتشبت ببصيص امل ما زال في علم الغيب…توسم الخير فيمن لم يزالوا في اصلاب آبائهم.

فبينما هو في هذا الهمّ والحزن الشديد، إذا به يرْفَعُ رَأْسه نحو السماء، فرأى سَحَابَةً عظيمةً قَدْ أَظَلَّتْه.

قال: فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ -عليه السلام-، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ، الذي أوْكَل الله أمرَ الجبال إليه، قال: فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟!”

أولا يكون رسولنا الكريم قدوة لنا وأسوة في قمة الإطمئنان مع قمة الحزن وفي اشد المواقف صعوبة؟؟!!

بلى…بلى..

اننا امام الرسول الكريم، الرؤوفُ الرحيم، البرُّ الحليم، الذي جاء بالرحمة والإحسان، ونبذِ الحقدِ والانتقام، فردَّ على هذا العرض بقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ، مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا”.

هل انتهى الموقف هنا؟؟

لا لم ينته الموقف هنا انه بعد هذا الدعمِ الملائِكيّ، والتأييدِ الإلَهيّ: دخل مكةَ وقدِ انزاحتْ عنه الهمومُ والأحزان، ووطَّن نفسه على الصبر على الأذى والعدوان…وأمضى حياته صلى الله عليه وسلم بين فر وكرٍّ…بين شدة وفرج….لكن الفريد ان قلبه في كل هذا وذاك…

قلب مطمئن… صلى الله عليك يا خير الورى.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى