من كتاب تقييد المباح: نظرات في آيات النشوز ومسألة ضرب النساء
إذا كان الشارع قد أباح للزوج بمقتضى قوله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } [النساء: 34] أن يقوم بما يمنع من النشوز، ويحافظ على استقرار الأسرة، فإن تلك الإباحة ينبغي تقييدها بالعرف ومقاصد الشريعة في جلب المصالح ودرء المفاسد. وقد وقع انحراف في مسألة ضرب الزوجات بسب الغفلة عن سياقها، ومراعاة العرف عند تنزيلها. واستغل بعض العلمانيين الوضع فراحوا يكيلون التهم لشريعة الإسلام، مدعين أنها تُشرّع إهانة النساء وضربهن. وسنحاول الإحاطة بهذا الموضوع وربطه بتقييد المباح من طرف ولي الأمر حين يقع التعسف في تنزيله.
إن النص الصريح الوحيد في القرآن الكريم والذي يبيح ضرب الزوجة وتأديبها هو قوله تعالى:﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34]. وقد تتالت نصوص السنة النبوية المُقيدة له. ففي حجة الوداع أعلن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته بعرفات الخطوط الكبرى لشريعة الإسلام التي ينبغي أن تحفظ وترعى. ومما قاله فيها: « فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ»[1]. وقد فسر ابن عباس الضرب غير المبرح بقوله: “بالسواك ونحوه” [2]، أي أنه ضرب رمزي لا غير. كما روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »[3] . وتُقرر فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي لم يكن يخفى عليها شيء مما كان يدور في البيت النبوي، أنه عليه السلام لم يضرب زوجة ولا ولدا قط.
كما جعل عليه السلام ضرب النساء سببا كافيا للنصح برفض خطبة الرجل، حيث روى البخاري عن فاطمة بنت قيس أنها استشارت النبي عليه سلم فيمن تقدم لخطبتها من الرجال فقال لها :« أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ»[4]. ونفّر عليه السلام من ضرب النساء، وجعله أمرا لا ينسجم مع مقتضيات الأنس والمتعة المتبادلة فقال فيما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ:« لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ»[5]. وفي رواية أحمد:«عَلَامَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ، ولعلّه أن يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ النهار أو آخر اللَّيْلِ »[6].
إن التأمل في هذه النصوص ومقابلتها يؤدي إلى الفهم السليم لحكم ضرب النساء. فعندما نجمع الآية مع الأحاديث الواردة في الموضوع، ثمّ نحتكم إلى مراعاة مقاصد الشريعة وأعراف الناس، فإننا سنخرج بنتيجة مفادها أن الضرب المنصوص عليه في الآية مباح إباحة جزئية روعيت فيها أعراف الناس زمن البعثة لكنه مكروه بالنظر الكلي. وهذا ما فقهه البخاري حين ترجم بقوله:” باب ما يكره من ضرب النساء”[7]. كما استحسن ابن العربي قول عطاء بمنع ضرب الزوجة ولو كانت ناشزا فقال:” هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ، فَإِنَّهُ مِنْ فَهْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هَاهُنَا أَمْرُ إبَاحَةٍ، وَوَقَفَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى .. وَإِنَّ فِي الْهَجْرِ لَغَايَةَ الْأَدَبِ”[8].
إن ضرب الزوجة مكروه إن لم يكن حرام على الجملة، نظرا لما يُورّثه من جفوة تُنافي السكن المقصود من الزواج، ويصبح غير جائز في بيئة لا ترضاه ولا تقبله. وقد أخذ بهذا الرأي القرطبي الذي عاش في بيئة أندلسية عرفت حضارة ورقة، يُعتبر فيها ضرب المرأة إهانة لها وحطّا من كرامتها، فقال: ” كل ما اقتضى الأدب فجائز للزوج تأديبها. ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة”[9]. فإذا كان القرطبي في زمانه يُفرّق في التأديب بين الرفيعة والدنيئة، فإنه يجب أن نلاحظ، أنه في زماننا أصبح الضرب مستهجنا عند عامة النساء ولا تقبله النفوس، ومن ثم يجب العدول عنه وتضييق استعماله ومراعاة التوجيهات النبوية المُنفّرة منه. ولذلك ربط ابن عاشور مشروعية الضرب بالبيئة والعرف فقال: “وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار مَحْمَل الإباحة فيها أنّها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس، أو بعض القبائل، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداء، ولا تعدّه النساء أيضاً اعتداء”[10].
ويمكن توجيه الآية توجيها آخر يأخذ بعين الاعتبار ما يجوز لولي الأمر القيام به من تقييد المباحات حين يترتب عليها ضرر عام، فتُصبح غير مناسبة للزمان ولا للعرف. فإذا اتضح من خلال الممارسة أن الضرب كوسيلة تربوية لا يُؤتي ثمرته في عصر من العصور، أو بيئة من البيئات؛ بل على العكس من ذلك يزيد من النشوز ويُعمّق الخلافات، فإنه يجوز لولي الأمر أن يصدر أمرا بمنعه ليس فقط في حق الزوجات؛ بل أيضا في حق الأطفال والأبناء. فالوسائل تسقط عند سقوط المقاصد، والضرب في ذاته مفسدة، وإنما جاز لكونه وسيلة إلى مصلحة التأديب، فإذا لم يحصل سقط الضرب الخفيف، كما يسقط الضرب الشديد[11].
ومن جهة أخرى فإن قوله تعالى:﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾[النساء: 35] الذي جاء بعد آية النشوز يُفيد أن الخطاب موجه لأولياء أمور المسلمين بأن يبذلوا جُهدا في الإصلاح. فإذا كانت الموعظة مطلوبة ولا حد لها، وكان الهجران مسموحا به وهو مُقيّد بألا يتجاوز أربعة أشهر وهي غاية الإيلاء للأزواج، وقد يؤتي بنتيجة ايجابية خلال هذه المدة، فإن أمر الضرب ليس بالهين، وقد تكون له عواقب وخيمة. ولو سلّمنا قبوله في بعض البيئات فلا يَسلم الفرد من تجاوز الحد المشروع فيه وعدم الوقوع في الضرر المنهي عنه. ولأجل ذلك رأى بعض متأخري الحنفية، والشافعية أن إباحة الضرب مُقيدة بشرط السلامة[12].ورأى ابن عاشور أنه: ” يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب كي لا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج لا سيما عند ضعف الوازع”[13].
ويشهد لمراكز الاستماع في قضايا العنف ضد النساء التي ظهرت في كثير من الدول ما كان عليه النبي عليه السلام مع أمته ورعيته. ففي زمانه غلب أدب الأنصار ورقّتهم بالمرأة، واحترام كرامتها، وتعلّمت النساء التظلم من الأزواج والسعي لرفع الضرر. روى ابن ماجه عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَا تَضْرِبُنَّ إِمَاءَ اللَّهِ فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ ذَئِرَ[14] النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَأْمُرْ بِضَرْبِهِنَّ فَضُرِبْنَ فَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِفُ نِسَاءٍ كَثِيرٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَقَدْ طَافَ اللَّيْلَةَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُّ امْرَأَةٍ تَشْتَكِي زَوْجَهَا فَلَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ »[15]. فمن خلال هذه القصة التي رواها أيضا أحمد وأبو داود والنسائي وصححها ابن حبان والحاكم نلحظ أن المرأة المسلمة تعلّمَت ألا تقبل الإهانة، وعرفت أن من حقها أن تتظلم عند ولي الأمر ليرفع عنها الحيف والضرر.
د. الحسين الموس
- [1]صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث 1218،(8/148).
- [2]الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، المجلد 3، ج 3، ص 157.
- [3]صحيح مسلم بشرح النووي ، كتاب الفضائل ، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، حديث 2328،(15/68).
- [4] صحيح مسلم بشرح النووي ، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، حديث 1480، (10/81).
- [5]صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من ضرب النساء، حديث 5204، الفتح (10/379)
- [6] الموسوعة الحديثية مسند أحمد بن حنبل، مسند المدنيين، حديث عبد الله بن زمغة، رقم 16221، ج 26، ص 160.
- [7]صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من ضرب النساء، الفتح (10/379).
- [8] أحكام القرآن ، أبو بكر بن العربي، ج1، ص: 525.
- [9]الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي، المجلد 3، ج 5، ص157.
- [10] التحرير والتنوير، ابن عاشور،مجلد 2، ج 5، ص 41.
- [11]قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام، ج1، ص 161.
- [12]بدائع الصنائع، الكاساني، ج4، ص 213.
- [13] التحرير والتنوير، ابن عاشور، مجلد 2، ج 5، ص 44.
- [14]ذئر النساء أي نشزن واجترئن .
- [15] سنن ابن ماجه، كتاب النكاح، باب ضرب النساء. وقد صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه تحت رقم 1615، ج 1، ص 336.