منتخب الساجدين وفريق الفائزين – الحبيب عكي
رغم كل التظاهرات والبطولات الوطنية والدولية في مختلف الرياضات وبهرجتها وإشعاعها، فلا يزال الجدل قائما حول جدوى الرياضات خاصة الفرجوية منها والشعبية كالمستديرة الساحرة كرة القدم، أو على الأصح لا يزال الجدل قائما حول سلمها في دعم النهوض والتنمية وتحقيق التقدم والازدهار والأمن والسلام لمختلف شعوب العالم، خاصة في دول العالم الثالث التي تتخذها – كما يقول البعض – وكأنها كل شيء في حياتها وهي قد لا تكون أي شيء.
جدل تغذيه وبقوة تلك الماكينة الإعلامية العالمية المستثمرة في الاتجاه الأول والمراهن على تجاوز كل تعثرات الشعوب وتحقيق كل تطلعاتها فقط بالرياضة وخاصة رياضة كرة القدم كمدخل ومحمل لكل شيء.
هكذا أصبحت المبالغة والمبالغة الشديدة في الاهتمام بالرياضة وخاصة الرياضة الفرجوية الشعبية كرة القدم، واقعا عالميا وفي كل مجالاتها وبكل تفاصيلها، فكانت الميزانيات الضخمة والاستثمار الخيالي في الصحف والقنوات، وفي الفرق والمباريات، وفي الدوريات والبطولات، وكانت هناك جيوش من الجماهير المجيشة دائما تقرع الطبول، جماهير ذات عشق فرجوي رهيب وذات ثقافة رياضية واسعة وانشغال بكل التفاصيل: أسماء الفرق واللاعبين، أسماء العصب والبطولات، نتائجها، أثمنة اللاعبين والمدربين، تعاقداتهم وانتقالاتهم، أرقام أقمصتهم وأجنحتهم، جهد رهيب لو بذل عشر معشاره في غيره من المجالات العلمية والتنموية الدافعة أو القاطرة لكان غير الذي هو الآن.
شخصيا، من غير المرحلة اليافعية، لم تكن تستهويني كرة القدم أبدا ولا أية كرة غيرها، بقدر ما استهوتني بعض الرياضات الدفاعية فمارستها ولا أزال إلى اليوم والحمد لله. ولكن الآن يطرح السؤال وبقوة موضوعية وواقعية وحتى نهضوية وتنموية، صحية حقوقية وديمقراطية. هل نفهم الرياضة على حقيقتها؟ هل نمارسها بروحها الرياضية وأهدافها التنموية؟ هل لدينا شيء من بيئة ذلك؟ ألا ينبغي إعادة النظر في جل الرياضات كأهداف وممارسات، فضاءات وتنظيمات؟ حمولات تربوية إصلاحية وطقوس فرجوية جماعية؟ تعارف إسلامي سلامي قومي وعالمي؟ أو على الأقل كمحفز مرافق ملطف وضروري لغيره مما يبذل في غيرها من المجالات الجادة والمضنية؟
أعجبني برنامج أحد المرشحين لرئاسة مجلس جهة فتية، ركز فيه على أربع أو خمس نقاط ضمنها العمل على تحقيق جهة رياضية بامتياز اهتماما وممارسة شعبية عامة وعارمة تستفيد منها كل الفئات الأطفال والشباب، الرجال والنساء على اعتبار أن الرياضة عنده تحقق الصحة والفرجة والتعارف والاندماج والراحة النفسية، ولن تخدم الجهة أجساد معتلة ولا نفوس مختلة و”المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف” وإن كان في كل خير. طبعا، كان حلمه أن يطلق نهضة رياضية في الجهة الفتي مع تحقيق ما يتطلبه ذلك من بنيات تحتية وملاعب وقاعات وساحات ومدارات ووسائل نقل ومآوي فندقية ودعم الفرق والأبطال والجمعيات والعصب الجهوية، لكن مع الأسف، استبداد “البلوكاج” لم يعمل ولم يدع غيره يعمل، والضحية هي ساكنة الجهة لا تنمية ولا رياضة.
صحيح، أن هناك فرق وعصب، واتحادات وجامعات، أصبحت بميزانياتها الضخمة واستثماراتها الخارقة، وربما العابرة للقارات، أصبحت وكأنها الدولة داخل الدولة، وهناك أيضا دول غيرت سياسة نهوضها من الحوامل التقليدية للفلاحة والصناعة والتجارة والملاحة التي تبدو عاجزة ومتجاوزة، إلى حوامل جديدة ترتكز على الرياضة والسياحة والاعلام..، ورغم اضطراب أصولها ورساميلها، فهي قد استثمرت فيهما بما عاد ويعود عليها في مدارج التنمية المستدامة وحقوق الإنسان أكثر من غيرها. أضف إلى ذلك ما حققه هذا النموذج التنموي لشعوبه من تحقيق الرفاه والسعادة والصحة وحيوية المواطن والحقوق والديمقراطية والأمن والسلام. وفوق ذلك قيم المواطنة الحيوية والانفتاح والتعايش والمحبة والتضامن.
من قال أن الرياضة ضد القيم خالية من المثل؟ من قال أنها مجرد ترفيه فاسد وتخدير مدمر في الأرض؟ بالعكس، الرياضة تنقد ممارسيها من الانحراف والادمان، من الضعف والهوان، تفجر طاقاتهم وتوجه اهتماماتهم، تصقل مواهبهم وتنضج شخصياتهم، تمتع أرواحهم، تحفظ صحتهم و تقوي أعصابهم على التحمل والمواجهة والإنجاز..
فكم من مرض نداويه بمجرد ممارسة الرياضة، مستغنين في ذلك عن غيرها من الأطباء والأدوية والمواعيد، وكم من بطل رياضي كان مدمنا ضائعا، وبفضل الرياضة تحول إلى بطل أسطورة ونجم النجوم، وكم من لاعب كان فقيرا معدوما ممتهن الكرامة. ليعود بعد نجاحه وتكوين ثروته بعرق جبينه ليتبرع ببعضها إلى أهل بلدته المحتاجين ودعم مؤسساتها الخيرية بسخاء، يدعم فيها تضامنها وصحتها، تشغيلها وتمدرسها، مشاريعها الصغرى بما لم تستطعه حتى برامج الدولة بقدها وقديدها، ولا غرابة بعد ذلك أن تراعي الشعوب ود لاعبيها فصيرت بعضهم عليها رؤساء.
أنظر إلى فريق منتخبنا الوطني المغربي وما أبان عنه من قيم ومهارات خلال فعاليات كأس العالم قطر الشقيقة 2022، قيم ومهارات عالية استحق بها لقب منتخب الساجدين وفريق الفائزين دون مجاملة ولا محاباة مجانية ولا عاطفة جنونية، ولكن، نتيجة أدائه القتالي على أرضية الملعب وفوزه التاريخي على منتخب الشياطين “بلجيكا” التي ساد الظن بأنها لا يشق لها غبار، عبرها الفريق الوطني بهدفين دون رد، وختم ذلك بسجدة جماعية على أرضية الملعب، شاكرين لله منه وعطائه لهم، لاعبين أنيقين مهذبين، مدرب وطني غيور وماهر، ورغم أن جلهم من أبناء الجالية فهم منضبطون مهرة متعاونون، بررة مع والديهم وذلك درس في المواطنة والعطاء لمن يدعيهما لمجرد أنه من الداخل.
لاعبين ألبسوا الصغار والكبار قميصهم وكلهم فخر الانتماء، إنهم فعلا، فريق أنسونا مرارة من كانوا قبلهم من أصحاب “الشعكوكات” الخنثوية وهزائمهم المجانية، “شعكوكات” لم يكن يراعي لاعبوها مسؤولية التمثيل الوطني ولا شرف حمل قميصه ولا حققوا من النتائج ما يرضي الجمهور المتعطش للفوز والنجاح، أي فوز وأي نجاح.
بل أنظروا إلى قطر الشقيقة كدولة منظمة في حد ذاتها، وما حرصت عليه من إبراز القيم الرياضية النبيلة، وكأن شعارها:” الرياضة نعم.. ولكن الانحراف والشذوذ والخمور لماذا”؟، وكأن شعارها: ” الرياضة نعم.. ولكن الدعوة مع الرياضة، لما لا “؟، وكأن شعارها: “استقبال دول العالم، نعم.. ولكن التطبيع مع العدو الصهيوني، لماذا”؟ وكأن شعارها: “قطر دولة منظمة.. والفرقة العربية، لماذا”؟ وكأن شعارها: ” اللعبة رياضية سياسية.. ونسيان القضية الفلسطينية في خضمها، لماذا”؟ وكأن شعارها: ” اللعبة رجولية.. ولكن حرمان النساء من الفرجة، لماذا”؟
إنها شعارات أصبحت ميدانية، وتكفي قطر الشقيقة دليلا على نجاح دورتها لكأس العالم، بل نجاح اختيارها التنموي المبدع والمقنع والممتع، اختيار الرياضة والسياحة والإعلام الداعم لقضايا الأمة، إنه النموذج الإبداعي في كل شيء.
لا فض فوك أستاذ الحبيب أحسنت