مصطفى قرطاح يكتب: علو الهمة وأثره في حياة الداعية (الحلقة الرابعة)
الدعاة إلى الله تعالى و والحاجة إلى إعلاء الهمم
حقيق على الدعاة أن يسعوا إلى إعلاء هممهم، ورفع سقف أهدافهم وأمانيهم، والترفع عن حضيض المطالب والشواغل والقضايا، تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي العزم من الأنبياء والرسل.
وحري بهم كذلك أن يتحاضوا على ذلك ويتواصوا به، فإن الله تعالى رعى نبيه وتولاه في دعوته بأن ظل يعلي من همته طيلة مشواره الرسالي، وذلك بما كان يبشره به من الرؤى الصادقة التي تؤكد نجاح دعوته وتحقيقه ما يصبو إليه؛ من انتشار دينه وانتصار دعوته، وكثرة أتباعه.
فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت علي الأمم. فرأيت النبي ومعه الرهيط. والنبي ومعه الرجل والرجلان. والنبي ليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم. فظننت أنهم أمتي. فقيل لي: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه. ولكن انظر إلى الأفق. فنظرت. فإذا سواد عظيم. فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر. فإذا سواد عظيم. فقيل لي: هذه أمتك»[1].
وأخذت الغيرةُ موسَى عليه الصلاة والسلام من السبق الذي حققه محمد صلى الله عليه وسلم، فبكى لذلك. وعن هذه الحادثة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم صعد بي حتى إذا أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي»[2].
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث مجرد مبلغ أو مبشر فقط، بل كان يعلي من همة أصحابه، توريثا لهذا المنهج بينهم، وإيمانا منه بأن الهمم العالية تحول الرؤى ومبشراتها إلى طموحات ثم إلى حقيقة وواقع. فالأمر كما قال المتنبي:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
إن علو الهمة أعظم أثرا من كثرة العدد، ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ [الأنفال: 65]، كما أن قصرها وتفرقها وقربها لا يعوضه كثرة العدد. وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: « يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها” فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن”. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»[3].
آثار علو الهمة على الداعية:
تتمثل أثار علو الهمة في الداعية في الأمور الآتية:
- تسطير أهداف دعوية عظيمة قصد تحقيقها، وذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى، فإنه سبحانه «يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها»[4].
- بذل أقصى الجهد واستفراغ كامل الوسع في تحقيق الأهداف وإنجاز المشاريع الدعوية العظيمة.
- عدم اليأس من الإصلاح، ثقةً في وعد الله تعالى وتوكلا عليه.
- التحذير من تيئيس الناس من الإصلاح، أخذا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم”. قال أبو إسحاق: لا أدري، أهلكهم بالنصب، أو أهلكهم بالرفع»[5].
- التنافس مع ذوي الهمم العالية في إدراك المراتب العليا، استجابة لقوله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) ﴾ [المطففين: 26].
كيف يكتسب الدعاة علو الهمة؟
- سؤال الله تعالى الهمة العالية، فإنها رزق يمن به الله على من يشاء من عباده، وقد قال سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60] ، وقال أيضا: أنا عند ظن عبدي بي[6].
- دراسة سير ذوي الهمم العالية ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90].
- مصاحبة ذوي الهمم العالية ف”المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”[7].
- الاكتساب التدريجي للهمة العالية، بوضع أهداف دعوية صغيرة والعمل على تحقيقها، ثم التدرج التصاعدي في ذلك.
- النظرة الإيجابية إلى التجارب الدعوية السابقة، بناء على أن المسلم مدعو إلى الاستفادة من كل اجتهاداته؛ خطئها وصوابها.
خاتمة:
إن حركة التوحيد والإصلاح هي حركة دعوية إصلاحية، انخرطنا فيها للتعاون على الدعوة إلى الله تعالى والقيام بها على أحسن وجه. وبعد أن أمضت الحركة سنوات من عمرها في إعداد المشاريع الدعوية وتنزيلها وتطويرها، مما كان له الأثر المحمود على الوطن وأهله؛ أقدمت الحركة على وضع مخطط استراتيجي جديد، يشمل مدى زمنيا يمتد على مدى ستة عشر سنة (من 2022 إلى 2038) ويتضمن العمل على مشاريع وقضايا دعوية استراتيجية كبرى. ولا شك أن تنزيل تلك المشاريع وتحقيق أهدافها يتوقف بالأساس على همم وعزائم أعضاء الحركة والمتعاونين معها، فعلى قدر عزائمهم وهممهم يؤتيهم الله تعالى، فقد قال سبحانه: «ومن تقرب مني شبرا، تقربت منه ذراعا. ومن تقرب مني ذراعا، تقربت منه باعا. ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة»[8]، فلنقم لهذا المخطط بكل ما أوتينا من قوة؛ تعبدية، وعلمية، وفكرية، وتواصلية، ومهارية ووجدانية.
ولنحرص أشد الحرص على أن تنال مؤسساتنا وهيئاتنا الدعوية التنظيمية؛ من مكاتب إقليمية وفروع ولجن وأقسام، نصيبا وافرا من هذه الهمم العالية، بما يعود في النهاية على كل أعمالنا بالجدة والجودة، ممتثلين قول الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ [الحج: 77-78] والحمد لله رب العالمين.
***
[1] ـ «صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
[2] ـ صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج.
[3] ـ حديث حسن، رواه أبو داود في سننه، أول كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، تحقيق شعيب الأرنؤوط – محمد كامل قره بللي، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، ١٤٣٠ هـ – ٢٠٠٩ م.
[4] ـ صححه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته، ح 1890، 1/384
[5] ـ صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والأداب، باب النهي من قول: هلك الناس
[6] ـ 15 صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} /آل عمران: 28 .
[7] ـ «مسند أحمد،صحيفة همام بن منبه، ح 8398 تحقيق الشيخ أحمد شاكر):
[8] ـ «صحيح مسلم، كتاب فضل الذكر والدعاء، والتوبة والاستغفار ، باب فضل الذكر والدعاء، والتقرب إلى الله تعالى.