مصطفى قرطاح يكتب: علو الهمة وأثره في حياة الداعية (الحلقة الثالثة)

علو الهمة عند إمام الدعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

رزق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم همةً عاليةً تلامس عَنَان السماء، تمثلت في تطلعه إلى بلوغه المقامات العليا من رضا ربه وتبوء المنازل العالية في الجنة، وترجمها إلى جد وجهاد في سبيل تحقيق ذلك. فقد رغب عليه الصلاة والسلام في بلوغ المقام المحمود الذي بشره الله تعالى به  بقوله: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، وهو مقام الشفاعة الذي لا يستطيعه الأنبياء والمرسلون من قبله، حيث سيستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه فَيُؤْذَنُ له عليه، فإذا رآه وقع ساجدا، فيدعه ما شاء الله أن يدعه، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسْمَعْ، واشفع تشفع، وَسَلْ تُعْطَ. قال: فأرفعُ رأسي فَأُثني على ربي بثناءٍ وتحميدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، فأشفع ( في ثلاث مرات متواليات) حتى ما يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود. وقد تلا قتادة ـ راوي هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه ـ  الآية الكريمة: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وقال: وهذا المقام ‌المحمود الذي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم »[1].

كما دعا عليه الصلاة والسلام أمته إلى أن يسألوا الله تعالى له بلوغ منزلة الوسيلة فقال: “إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صَلُّواْ عَلَيَّ. فإنه من صلى عَلَيَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرا. ثم سلوا الله لي ‌الوسيلة. فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا هو. فمن سأل لي ‌الوسيلة حلت له الشفاعة”[2].

وقد كشف القرآن الكريم عما كان لهمته العالية في الدعوة إلى الله تعالى والرغبة الصادقة في هداية الناس من تأثير ظاهر عليه، وتجلى ذلك في ما ظهر على نفسه من حزنٍ وأسى على إعراض المشركين، إذ كان الهم والحزن يخيم على حاله، وحدثه الله تعالى في ذلك معاتبا ومسليا بقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ ‌بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6] وبقوله: ﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ ‌بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤)﴾ [الشعراء: 1-4].

وقد اتفقت كلمة المفسرين على أن هذه الآيات هي معاتبةٌ من الله تعالى لنبيه على حزنه الشديد لما يلقاه من إعراض قومه وتسليةٌ له. وفي هذا السياق قال الإمام الطبري ” يعني تعالى ذكره بذلك: فلعلك يا محمد قاتلٌ نفسك ومهلكُها على آثار قومك الذين قالوا لك: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى ‌تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ﴾ [الإسراء: 90] تمردا منهم على ربهم، إن هم لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنزلته عليك، فيصدقوا بأنه من عند الله حَزَناً وتَلَهُّفاً ووَجْداً، بإدبارهم عنك، وإعراضهم عما أتيتهم به وتركهم الإيمان بك”[3]. وقال أيضا: “وهذه معاتبة من الله عزّ ذكره على وُجده بمباعدة قومه إياه فيما دعاهم إليه من الإيمان بالله، والبراءة من الآلهة والأنداد، وكان بهم رحيما[4]. كما نقل عن ابن إسحاق قوله في تفسير الآية: يعاتبه على حزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم: أي لا تفعل”[5] .

كما بين الطبري معنى قوله تعالى ﴿لَعَلَّكَ ‌بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]  فقال: « يقول تعالى ذكره: « لعلك يا محمد قاتلٌ نفسك ومهلكُها إن لم يؤمن قومك بك، ويصدقوك على ما جئتهم به والبخْع: هو القتل والإهلاك في كلام العرب»[6]، ونقل عن قتادة قوله: « لعلك من الحرص على إيمانهم مخرج نفسك من جسدك، قال: ذلك البخع»[7].

وأكد الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى أن هذه « الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم لما كان من القلق والحرص على إيمانهم، فكان من شغل البال في حيز الخوف على نفسه، و«الباخع» القاتل والمهلك بِالْهَمِّ[8].

وقد ترجم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهم والحزن في كثرة سؤاله الله تعالى الهداية لقومه، والعفو عنهم وطلب المغفرة لهم، ورجاء نزول الآيات التي بها يهتدون.ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه عليه الصلاة والسلام تحمل أذى قومه وسخرية الأقارب وتهجم الأباعد، وحصار شعب أبي طالب وعناء الهجرة إلى الطائف وما لاقاه من قومها، كما هاجر مكة وهي أحب البقاع إليه تاركا وراءه بيته وماله.

كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن استعداده التام لمواجهة أي عقبة في سبيل تبليغ رسالته. فقد نقل له عمه أبو طالب ما صدر عن وفد قريش، وتهديدَه ووعيدَه إن لم يتوقف عن الدعوة وقال له: ” يابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا: كذا وكذا، للذي قالوا له، وآذوني قبل، فَأَبْقِ عَلَيَّ وعلى نفسك، ولا تُحَمِّلْني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، واكْفُفْ عن قومك ما يكرهون من قولك هذا الذي فرق بيننا وبينهم، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاءٌ (أي ظهر له فيه رأي آخر لم يكن من قبل)، وأنه خَاذِلُهُ ومُسْلِمُهُ؛ وضَعُفَ عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم لو وُضِعَتِ الشمس في يميني والقمر في ‌يساري ما تركت الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى”[9].

ومن همته عليه الصلاة والسلام أنه كان لا ييأس من دعوة الناس حتى وهم في سكرات الموت. فعن أنس: أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه. فقال: “أسلم”. فنظر إلى أبيه-وهو عند رأسه- فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ” الحمد لله الذي أنقذه من النار”»[10].

و”لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله ابن أبي أميه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: يا عماه، قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة حتى قال له أبو طالب، آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، ويأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله في ذلك: “ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ” ، وأنزل الله في أبي طالب: “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين”[11].

وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم خلال مسيرته الدعوية يردد وعد الله تعالى بنصرة هذا الدين وتبليغه إلى العالممين ويقول في ذلك: “ليبلغن هذا الأمر مبلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، يعز بعز الله في الإسلام، ويذل به في الكفر”[12].

***

[1]  ـ «صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} /القيامة: 22 – 23/ بتصرف يسير.

[2]  ـ صحيح مسلم»  ‌‌كتاب الصلاة،  باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة. قال أهل اللغة: ‌الوسيلة المنزلة عند المَلِكِ.

[3]  ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن (15/ 149) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (٢٢٤ – ٣١٠ هـ) تحقيق: د عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الإسلامية بدار هجر – د عبد السند حسن يمامة، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة: الأولى، ١٤٢٢ هـ – ٢٠٠١ م.

[4]  ـ نفسه : (15/ 150).

[5]  ـ نفسه.

[6]  ـ نفسه: (17/ 543).

[7]  ـ نفسه.

[8]  ـ  المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، (4/ 224) لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (ت ٥٤٢هـ) عبد السلام عبد الشافي محمد دار الكتب العلمية – بيروت الطبعةالأولى – ١٤٢٢ هـ.

[9]  ـ كتاب السير والمغازي، لمحمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء، المدني (ت ١٥١هـ)، ،  باب ما نال أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من البلاء والجهد (ص154) تحقيق سهيل زكار دار الفكر – بيروت الطبعة الأولى ١٣٩٨هـ /١٩٧٨م.

[10]  ـ صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام.

[11]  ـ  السير والمغازي، ص:238.

[12]  ـ المستدرك على الصحيحين للحاكم: 4/ 477.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى