مربو يكتب: التجرد، دعامة وحصن للدعاة

تمهيد:

لاشك أن الحركة الإسلامية في لحظتها التاريخية الراهنة في حاجة أكثر من أي وقت مضى، وهي تواجه تحديات جديدة وصعبة، إلى إعادة الاعتبار لبعض مقوماتها الأساسية الثابتة، و تجديد الوهج في عُدتها القيمية ودعائمها التربوية، حتى تستطيع التغلب على تأثيرات تلك التحديات.

وقد لا نجد استثناء بين أطياف هذه الحركة في تبويئها العمل التربوي المقام المحوري في برامجها واهتماماتها،  فهو العماد الذي تقوم عليه روح هذه الحركة، وهو آليّةُ ترسيخِ هويّتها وتجذير مرجعيّتها الشرعيّة في الأفراد على اختلاف مستوياتهم. ولا معنى حقيقيًّا لوجودها دونَه. وهو الترياق الذي تتوسل به لمعالجة الأدواء والعلل  الناشئة فيها أو المتسرّبة إليها.

ومن بين أهم  الدعائم التربوية التي تحتاج الحركة الإسلامية اليوم، ومنها حركتنا المباركة، إلى تعميقها في صفوف المنتسبين لها  وتقوية  تمثلنهم لها : دعامة التجرد، وهو خلق، بل مقام من مقامات التربية والتزكية التي ينشدها كل مسلم، بله من اصطف في مواقع الدعوة والعمل للإسلام.

ولعلنا نعلم جميعا أن عمادَ نجاح العمل الدعوي – بعد تأييد الله تعالى- معقود بحال مَن يحمله، فلا نجاح له أبدًا ما لم يتجردْ له المؤمنون به، فيأخذَ عليهم لُبَّهم وكلَّ مشاعرهم، ويكونَ هو كلَّ حاضرهم ومستقبلهم، وتكون شؤون حياتهم كلها مرتبطةٌ بحياته. فإن تكلَّموا ففي الدعوة، وإن عملوا فللدعوة، وإن ساروا سارت معهم، وحيثما  وُجدوا لا تفارقهم ولا يفارقونها.

والتجرد للدعوة هو تجرد للخير في أسمى معانيه، والتجرد للخير من سمات الملائكة المقربين، كما قال صاحب الإحياء: “والتجرد لمحض الخير هو دأب الملائكة المقربين، قال تعالى فيهم: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ـ التحريم/ الآية 6 .

في معنى التجرد:

في اللغة: جَرَدَ الشيءَ يجرُدُهُ جَرْداً وجَرَّدَهُ قشَره… والجُرْدَةُ بالضم أَرض مسْتوية متجرِّدة… والسماءُ جَرْداءُ إِذا لم يكن فيها غَيْم .. والتجرُّدُ التعرِّي [لسان العرب 3/115].

ومما ورد عنه  في الاصطلاح الشَّرعي:  ” التَّفرُّغ لِلشَّيءِ والجِدّ فيه، والانقطاع له، فيُقالُ: تَجَرَّدَ لِلعِبادَةِ: إذا تخلَّى عن الشَّواغِل و تفرَّغ لها. ويُطلَق أيضاً بمعنى: الإنصاف وعَدَم التَّحَيُّزِ للأهْواءِ”.(الجمهرة: معلمة مفردات المحتوى الإسلامي)

وقيل: التجرّد لله تعالى عن كلِّ ما سواه، بأن تكون الحركة والسكون في السرّ والعلن لله تعالى. أو: أن تجعل نفسك وَقفًا لله  تعالى.

ويعني الصوفية بالتجرد: الانقطاع بالكلية إلى الله، وهم يقابلونها هنا بلفظ “التسبب” الذي هو طلب الرزق، ويفضلون بذلك التجرد على التسبب. وقد فصل في ذلك ابن عطاء الله في التنوير.

ويزيدون معنى التجرد عمقا وإيغارا بالقول:”أن يتجرد بظاهره عن الأعراض، وبباطنه عن الأعواض.

وهو ألا يأخذ من عرض الدنيا شيئا، ولا يطلب على ما ترك منها عوضا: من عاجل ولا آجل، بل يفعل ذلك لوجوب حق الله تعالى، لا لعلة غيره، ولا لسبب سواه”.

ويوضح ابن القيم الجوزية معنى الكلمة في مدارج السالكين، بأن قابلها “بالتفريد”، معتبرا الأولى، أي التجريد: انقطاع عن الأغيار، والتفريد إفراد الحق بالإيثار، فالتجريد عنده متعلق  بالعبودية والتفريد متعلق بالمعبود.

بين التجرد والإخلاص:

يختلط معنى الكلمة في أحيان كثيرة في خطاب  الدعاة والمربين بمعنى الإخلاص ، فهل اللفظان مترادفان ؟ أي يحملان معنى واحدا؟ أم مختلفان؟

نعم، هما متقاربان في المعنى والمضمون، وهما كذلك صنوان لا يفترقان. وهذا ما يجعل البعض يظن أن الإخلاص هو نفسه التجرد، والأمر ليس كذلك.

فبين الأمرين نقاط فروق من بينها:

ـ أن الإخلاص حق الله، والتجرد حق دعوته ودينه.

ـ أن الإخلاص يكون قبل العمل، والتجرد يكون أثناء العمل.

التجرد قوام العمل الدعوي الجماعي:

إنَّ العمل الإسلامي في هذه المرحلة الدقيقة لفي حاجة ماسة إلى القلوب المتجردة الموصولة بالله، التي لا تعمل من أجل الصدارة في أي مجالٍ، أو ابتغاء الظهور الذي يَقصم الظهور، أو رغبة في الأجر العاجل، أو المَثوبة الحاضرة، من مال يُجمع، أو ذكر يرفع، كلا، بل المتجرد هو ذاك الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: “طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسُه مُغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفع”. البخاري

وإن أبرز ما  يؤثر في سير الحركة الدعوية، ويُعيق حسن استمرار عملها الدعوي الجماعي المنظم، هو نضوب قيم التجرد في أعضائها، ووقوعهم ضحايا تلك الأسباب التي وَردت في حديث ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه، فعن أبي أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخُشَني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يضرُّكم من ضَلَّ إذا اهْتدَيتُم)، قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا! سألتُ عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (بل ائْتَمِروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعاً، وهوًى مُتَّبَعاً، ودُنيا مُؤْثَرَةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأْيٍ برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك ودع العوامَّ). (أبو داود والترمذي وحسنه)

يوم يتنزه الداعي عن المطامع وحطام الدنيا تعلو مكانته عند الناس، ويَعظُم قدره في عيونهم، ويَرَون صدق إخلاصه، فيكونُ لذلك أثرُه في القبول: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ (هود: من الآية 88)، ما لي عندكم من غرض، ولا فيكم من مآرب، إلا أن يُجري الله الخير على يدي بما أقول، إبراء لذمتي، وهذا هو سبيل المتجردين.

إن التجرد مرتبة سامقة، تحتاج إلى مجاهدة، ولا ينالها إلا من ألزم نفسه الطاعات وألجمها عن الشهوات وصَرَفها عن الشبهات.

من مظاهر وصور تجرد الداعية:

التجرد في العبادة:

ففي صلاته يوقن أن التجرد شرطُ قبولها، وهو لا يَمن بصدقته على أحد، وعند صومه يُجرد نفسه من جميع شهواته، وفي الحج يتجلى التجردُ في أسمى معانيه في كل حركاته وسكناته.

التفاني في العطاء الدعوي:

فالدعوة تَسري فيه كما يسري الماء في عروق الشجر والكهرباء في الأسلاك، وتظهر في أخلاقه وعبادته، فيَرق قلبه وتخشعُ نفسه، وتزداد رغبتُه في الدعوة ويشتد اهتمامه بها، وحرصُه عليها، وإيفاؤه لحقوقها، حتى تُثمر جهوده وقد لا تثمر في الدنيا، وقد تثمر بعد حياته، فهذا هو النبي، صلى الله عليه وسلم، يخاطَب بقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ)(46ـ يونس).

علو همته الدعوية:

قال ابن القيم في المدارج: “همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبًا صادقًا خالصًا محضًا فتلك هي الهمة العالية”، فينطلق الداعية المتجرد شعلة متقدة، تتحرك لدعوة الله بنشاط وقاد، لا تثنيها المحبطات، ولا يعيق سيرها عائق ذات.

التحرر من تحكم الهوى:

فالداعية المتجرد يَتَرفع عن هوى الذات، ، ويبتعد عن الانتصار للنفس والتشفي، فلا ينتهز الفرص لتصفية الحسابات ممن خالفه في رأي أو مشورة.وقد حذر القرآن الكريم أشد التحذير من اتباع الهوى، يقول تعالى لداود عليه السلام: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (: من الآية 26)، ويقول تعالى لنبيه محمد عليه السلام في شأن المعرضين عن دعوته: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ ﴾ (القصص الآية50  ) .

وهذا الهوى المتحكم هو الذي يجعل الإنسان يستمع إلى الحق فلا يعي منه شيئًا، فهو يريد إخضاع كل شيء لهواه، فالنصوص عنده تابعة لا متبوعة، والنتائج عنده سابقة على المقدمات، فهو لا يقرأ ليصل إلى الحقيقة أيًّا كانت، بل يقرأ ويبحث عما يعضد فكرته، وينصر رأيه ومعتقده، فإن وجد ما يسنده- ولو من بعيد- هلل وكبر، وإن وجد ما يعارضه غض الطرف عنه، واجتهد في إهالة التراب عليه لو استطاع، وإلا صوَّب إليه سهام التأويل المتكلف.

نشدان الحق والصواب:

إن ميزانَ التجرُّد عند الداعية هو قصدُ الحق، ونشدانُ الصَّواب، لا يُفَرِّق بين أن يظهرَ الحقُّ على يده أو على يد إخوانه، ويرى أخاه معينًا لا خصماً، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له، ويقدّم النصيحة لإخوانه بكلِّ آدابها وضوابطها، ويظل عاملاً لدعوته، حريصًا على نجاح رسالته، متأبِّياً على محاولات الاستدراج، واعياً لكلِّ محاولات شق الصف التي يجتهد فيها الخصوم.

ولعلَّ ظاهرةَ التنازع والشقاق والتشرذم التي تصيب بعض العاملين في حقل الدعوة تشير إلى نقص في التجرّد الحقيقي لله.

إننا حين تختلف آراؤُنا واجتهاداتنا ورؤانا ونحن متجرّدون لله وللحق، فسنحتكمُ إلى الضوابط والثوابت التي ارتضيناها، وسيقلُّ التنازعُ والشقاقُ والتشرذم دون شك حين نكون متجرِّدين لله؛ نقبل النصيحة، ونحتمل النقد، سواء كان لأشخاصنا أو لأفكارنا أو لتصرفاتنا، وحين نكون متجرّدين لله لا تكون ذواتنا محور اهتمامنا ولا محور تحرّكنا، وحين نكون متجرّدين لله تكون طريقة الحكم على الآخرين هي الطريقة التي أمر الله بها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ]المائدة: 8[.

وما أحوجنا لاستلهام فكرة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى حين قال: “ما ناظرت أحدًا قط فأحببت أن يخطئ”.

وقال أيضًا: “ما كلمت أحدًا قط إلا أحببت أن يُوَفقَ ويُسَدد ويُعان، وما كَلمتُ أحدًا قط إلا ولم أبالِ بَيّنَ اللهُ الحق على لساني أو لسانه”.

وقد ورد من الأدعية المأثورة ما أخرجه مسلم أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يفتتح صلاته من الليل: “اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”.

 فإذا كان الرسول المؤيَّد بالوحي يدعو الله تعالى بهذا الدعاء الجامع، يسأله الهداية لما اختلف فيه من الحق، أي: الزيادة فيها والثبات عليها. فكل ناشد للحق أولى بهذا الدعاء، فما أحوجنا أن نتجرد في طلبنا للحق وأن ندور معه حيث دار، وأن ننصره حيث كان ومن أي جهة صدر!، فإنه وربي من علامة الصدق والإخلاص.

نماذج وقصص عن التجرد:

يزخر تاريخنا الإسلامي قديمه وحديثه بالأمثلة والقصص التي تعكس معاني ومواقف جليلة عن التجرد، ما أحوجنا إلى التأسي  بها والاعتبار. وفي حياة وسير الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفرُ وأغنى مَعين في ذلك. وسنسوق هنا نماذج محدودة من تلك القصص للتأسي والعبرة.

قصة عزل الفاروق لخالد:

جاء في تاريخ دمشق لابن عساكر، أن الفاروق عمر خشي أن يُفتَنَ الناس بخالد، بسبب انتصاراته المتوالية، فقرر عزله، وتعيين أبي عبيدة،  حتى يتحقق النصر بغيره، ويُوقن المسلمون أن النصر من الله وحده وليس بجهود ومهارة العباد، وهذا اليقين في نظر الفاروق أهم سبب للنصر والتمكين.

أرسل الخليفة رسالة في ذلك إلى أبي عبيدة، كتب فيها: ” فقد وَليتك أمور المسلمين، فلا تستحي، فإن الله لا يستحي من الحق، وإني أوصيك بتقوى الله الذي يبقى، ويفنى ما سواه، والذي استخرجك من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى. وقد استعملتك على جند هنالك مع خالد، فاقبض جنده واعزله عن إمارته…”

من المفيد أن نتوقف عند مواقف الصحابة العظام، كيف كانوا يتصرفون عندما يعزلون، وعندما يُعَيَّنون في مناصب كبيرة.

وصل كتاب العزل والتعيين أبا عبيدة، فلم يُخبرْ خالداً، وظل يتعامل معه كأمير، يصلي خلفه، ويطيع أمره.

ولما علم خالد بعزله بعد عشرين ليلة من فتح دمشق، دون أن يخبره أبو عبيدة، دخل على هذا ا|لأخير وعاتبه عتاباً رقيقاً، حيث قال: “يغفر الله لك، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية، فلم تُعلمني وأنت تصلي خلفي، والسلطان سلطانك، فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك، ما كنتُ لأعلمك ذلك، حتى تعلَمَه من عند غيري، وما كنتُ لأكسر عليك حربَك حتى ينقضي ذلك كلَّه، ثم قد كنتُ أعلمُك إن شاء الله. وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان، وقُـوّامٌ بأمر الله عز وجل، وما يَضرُّ الرجلَ أن يليَ عليه أخوه في دينه ولا دنياه”.

وقد تجلت عظمةُ تربية خالد بن الوليد وتجردُه في طاعته لأمر خليفة المسلمين، فبمجرد أن علم بأمر عزله، قال: “الحمد لله الذي ولَّى عمر بن الخطاب، وقد كان أبو بكر أحب لديَّ من عمر بن الخطاب، فالحمد لله الذي ولَّى عمر، ثم ألزمني حبه”، فمنذ هذه اللحظة أصبح يحب عمر بن الخطاب، وليس فقط يطيعه.

ولم يعترض أحد على ما قرره الخليفة من عزل خالد، كما لم نسمع عن اعتراض على توليته على الجيوش، وقد كان أبو عبيدة أميرًا عليها، وهذا يعكس لنا إلى حد بعيد، طبيعة ذلك الجيش الإسلامي المنتصر، فلا فرق لدى المسلمين، فهم تحت أي إمرة يعملون، وفي أي صف يشاركون، وإنما هدفهم رضا الله ، والجهاد في سبيله.

إنها مدرسة التربية على التجرد الضابطة للهوى وحظوظ النفس، وتضييق هامش التنازع والصراع على المناصب. وتعليق القلب والعمل بالآخرة، والتي نجد آثارها في حيوات الصحابة كلهم.

عزل الفاروق لعمير بن سعد:

نموذج آخر شبيه، عن التجرد، نقف عليه من خلال قيام عمر رضي الله عنه بعزل عمير بن سعد عن حمص ويضمها لمعاوية، وعندما جاءه عمير، قال له عمر: والله ما عزلتك لأمر سوء سمعته عنك، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما سرني توليتك ولا أحزنني عزلك”.

فما أحوج العاملين في حقول الدعوة أن يقتدوا بسيَر هذه النماذج في تولي المهام والمسؤوليات والتكليفات، ويستمر إخلاصهم وعطاؤهم مهما كانت مواقعهم في التنظيم.

توجيه بليغ في التجرد من عالم لأحد أهل العلم:

ونختم بهذا التوجيه الراقي البليغ المنبه إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين العلماء فيما بينهم وبين العاملين في حقل الدعوة والمصلحين من آداب وقيم التجرد. 

أورد الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي  في كتاب له بعنوان: “مجتنى الفوائد الدعوية والتربوية” (إعداد محمد بن عبد الله الوائلي) ردا لعالم  كتب له إنسان من أهل العلم والدين ينتقده انتقاداً حاراً في بعض المسائل، ويزعم أنه مخطئ فيها حتى إنه قدح في قصده ونيته، وادعى أنه يدين الله ببغضه بناءً على توهم من خطئه ، فأجاب المكتوب له :

” يا أخي إنك إذا تركت ما يجب عليك من المودة الدينية، وسلكت ما يحرم عليك من اتهام أخيك بالقصد السيء على فرض أنه أخطأ، وتجنبت الدعوة إلى الله بالحكمة في مثل هذه الأمور، فإني أخبرك قبل الشروع في جوابي لك عما انتقدتني عليه : بأني لا أترك ما يجب عليَّ من الإقامة على مودتك، والاستمرار على محبتك المبنية على ما أعرفه من دينك انتصاراً لنفسي، بل أزيد على ذلك بإقامة العذر لك في قدحك في أخيك، بأن الدافع لك على ذلك قصدٌ حسن، لكن لم يصحبه علم يصححه، و لا معرفة تبين مرتبته، و لا ورع صحيح يوقف العبد عند حده الذي أوجبه الشارع عليه، فلحسن قصدك عفوتُ لك عما كان منك لي من الاتهام بالقصد السيء، فهب أن الصواب معك يقيناً، فهل خطأ الإنسان عنوانٌ على سوء قصده، فلو كان الأمر كذلك، لوجب رمي جميع علماء الأمة بالقصود السيئة، فهل سلم أحد من الخطأ؟

وهل هذا الذي تجرأت عليه إلا مخالف لما أجمع عليه المسلمون من أنه لا يحل رمي المسلم بالقصد السيء إذا أخطأ، والله تعالى قد عفا عن خطأ المؤمنين في الأقوال والأفعال، وجميع الأحوال. ثم نقول : هب أنه جاز للإنسان القدح في إرادة من دلت القرائن والعلامات على قصده السيء، أفيحل القدحُ فيمن عندك من الأدلة الكثيرة على حسن قصده، وبعده عن إرادة السوء ما لا يسوغ لك أن تتوهم فيه شيئا بما رميته به، وإن الله أمر المؤمنين أن يظنوا بإخوانهم خيراً إذا قيل فيهم خلافُ ما يقتضيه الإيمان، فقال تعالى (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ) سورة النور .

واعلم أن هذه المقدمة ليس الغرض منها مقابلتك بما قلت، فإني كما أشرت لك: قد عفوت عن حقي إن كان لي حق، ولكن الغرض النصيحة، وبيان موقع هذا الاتهام من العقل والدين والمروءة الإنسانية”.

المختار فاضل مربو

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى