ذ محمد يتيم يكتب: المثقف والسلطة.. السياسيون الإصلاحيون ومنطق الدولة

قد تضيق مسالك العمل السياسي لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، وقد تخضع الأحزاب والدول لمنطق التداول صعودا وهبوطا. كما أن من هو في موقع في السلطة أو قريب منها، يفكر في الغالب بمنطق المصالح والترجيحات المعقدة والمحتملة في مدخلاتها ومخرجاتها. وفي المقابل تبقى العقيدة والفكرة، ويبقى عنصر الاستبصار الديني بتعبير ابن خلدون الذي سرعان ما تعضده منعة وشرعية اجتماعية جديدة أو متجددة ، فتقوم دورة جديدة من الإصلاح أو دولة جديدة بالمعنى الخلدوني.

فالعصبية أو التنظيم أو القبيلة وكل أشكال الاسناد للسطة، ومختلف أشكال الشرعية الاجتماعية لا يمكن لوحدها أن تبني دولة أو حضارة أو أمة ما لم تكن هناك فكرة ، ودون عقيدة أو استبصار ديني بتعبير ابن خلدون. تتجدد الدول والتنظيمات بتجدد الأفكار من جهة، وبتجدد الهمة النضالية من جهة ثانية. كما تشيخ بشيخوختها الفكرية وتخبو بخبو إرادتها النضالية.. ذلك أن الإرادة الإصلاحية والنضالية تنطلق أولا وقبل كل شيء بفكرة في الرأس؛ فالصمود هو أولا وقبل كل شيء فكرة في الرأس، والخوف كما يقول جمال الدين الأفغاني فكرة في الرأس ..

الهزيمة أيضا هي قبل كل شيء فكرة في الرأس، وشعور في النفس تنعكس على الإرادة .. فكرة تعصف بالإرادة وتمهد للهزيمة قبل أن تتحولا إلى أمر واقع. أما من الناحية العملية فيتعين التأكيد أن التنظيمات والحركات التي تقودها قيادات مضطربة فكريا ومهزومة نفسيا هي السبب الأول في الهزيمة. ليس مطلوبا من التنظيمات السياسية والاجتماعية أن تدخل في مواجهة مع الحكومات والدول، التي قد تتخذ توجهات وقرارات محكومة بمنطق المصلحة : مصلحة الدولة والمجتمع والبلد، سواء كانت المصلحة معتبرة أو موهومة أو قد تكون تلك المصلحة مرجوحة بالنظر للمفاسد التي ستلابس تلك المصلحة كانت معتبرة أو محتملة أو متوهمة .

في السياسة ، تبقى التقديرات محتملة وارد فيها الخطأ والصواب .. فليس في السياسة يقين أو حقيقة مطلقة، ولذلك كان تعدد الاجتهادات و والمواقف بناء مطلوبا، كما أن وجود الرأي الآخر ضرورة “تاكتيكية” واستراتيجية بالنسبة لمن هو في السلطة ..أو هكذا ينبغي أن ينظر إلى الأمور. وحتى لو لم يوجد الرأي الآخر لبحث عنه المدبر السياسي ووفر ظروف وجوده .

و بالمثال يتضح المقصود. فوجود حركات أو جماعات رافضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ينفع ولا يضر بل إنه يعزز القدرة التفاوضية للدولة، وهو النهج الذي يعمل به الكيان الصهيوني ويقوم عليه تدبير عدد من الدول الكبرى لعلاقاتها الدولية وقوتها التفاوضية !! وسيادة رأي واحد تحت الطلب أو بسبب التزلف والتقرب من السلطة مضر بمصالح الدولة والأمة والمجتمع .

الإصلاح أيضا همة و إرادة أولا لقوله تعالى :” إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله “، والمطلوب عقلا وشرعا أن يبرئ المصلح ذمته ويقوم فيه بما في وسعه واستطاعته .. وعلى الإصلاحيين أن يتكلموا أولا وقبل كل شيء بلغة الإصلاح والمبادئ، وبلغة المثقفين والعلماء الهادئة والصريحة في نفس الوقت، لا بلغة السياسيين البراجماتيين خاصة حين يكونون متحررين من إكراهات التدبير السياسي وتناقضاته الملازمة له ، دون أن يعني ذلك الانجرار إلى مربع الاصطدام مع السلطة أو الدخول في صراع مع الدولة والوطن ..

وفي نفس الوقت عليهم أن يحرصوا على تبليغ أفكارهم ومواقفهم بكل وضوح ولكن بروية وبعد نظر، خاصة إذا كان ذلك الاصطدام بين السلطة والمثقفقين والنخب مطلوبا من خصوم الأمة والوطن داخليا وخارجيا. ويتعين على السياسيين الإصلاحيين أيضا أن لا يكون لديهم خطاب مزدوج، بحيث ينتقدون ويواجهون غيرهم من الإصلاحيين الذين كانت لهم ترجيحات سياسية في مرحلة من المراحل، تقوم على دعم الجبهة الداخلية رغم ما قد يكون لديهم من قناعات أو ترجيحات مخالفة في الإصلاح، ويتحولون بعد ذلك إلى دعاة للسكوت عن بعض الترجيحات التي تتخذها دولتهم وأصحاب القرار فيها مهما كان من الواضح تعارضها مع قناعات مبدئية وتوجهات سابقة.

هي معادلة صعبة لكنها غير مستحيلة، وهي ممكنة إذا صدر الإصلاحيون السياسيون من نفس المعيار، وليس من منطق يقوم على ازدواجية المعايير بحسب موقعهم !!! وأخيرا فأيا كانت مواقف الإصلاحيين السياسيين الممارسين محكومة بهذا المنطق العملي الترجيحي ، فإن موقع المثقف يفرض عليه مقاربة مختلفة .

يتعين على المثقف أن ينطلق من موقعه كمثقف ووظيفته تثبت المواقف المبدئية ودعمها والتأكيد عليها ..ليس من الضروري أن يفكر المثقفون والمفكرون بمنطق إكراهات السياسيين والمسؤولين عن تدبير الشأن العام بمختلف مستوياته.. أليس هذا هو جوهر الديمقراطية؟ وهل هناك ديمقراطية دون استقلالية وحرية تعبير بالنسبة للمثقفين أولا؟ .. بل وبالنسبة الفاعلين السياسيين أيضا؟؟؟

منطق الدولة الراشدة ينبغي أن تفتح مجالا واسعا للحرية للفاعلين السياسيين ليعيروا عن وجهات نظرهم، كما ينبغي أن يكون صدرهم أرحب بالنسبة لآراء ووجهات نظر المثقفين المتحررين من إكراهات التدبير السياسي، لأن تلك الآراء تكون أقرب للاستماع لمنطق العقل ولمنطق الحقيقة، وليس لإكراهات التدبير السياسي الذي هو أقرب للمساومة وأنصاف الحلول، بل أحيانا أشباه الحلول التي لا تزيد المشاكل إلا تعقيدا..

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى