محمد يتيم يكتب : التفكير المواكب.. فكر تبريري  أم اعتبار للسنن ؟

يعتبر البعض أن التفكير المواكب أو الفكر الذي يأتي لاحقا على تحديات واقعية، هو بمثابة فكر مجرد فكر ” تبريري ” مع إعطاء حمولة سلبية لمصطلح التبرير. والواقع أن ” التبيرير” هو نمط من أنماط التفكير ، فضلا عن أنه تفكير يعبر عن قدرة كبيرة للتكيف مع تحديات الواقع ، لذلك يكون “التبرير”  (la rationalisation) مسلكا إيجابي حين يكون إدراكا موضوعيا لمعطيات تلك الواقع وإكراهاته ، فضلا عن أنه آلية نفسية تمكن من الصبر والاصطبار على مواصلة الإصلاح مراعاة للسنن والقوانين ، وفي ظل شروط لا تسمح بتحقيق المأمول مما يفتح المجال للعمل من أجل استفراغ الوسع في تحقيق الممكن المقدور عليه .

 ومن المعلوم أن من كبرى عقائد المسلمين الإيمان بالقدر خيره وشره . ونحن حين نقول قدر الله وما شاء فعل ، لا نقوله من باب السلبية أو الإيجابية ، ولكن إدراكا أننا قد لا نمتلك كل الشروط والقدرات من أجل إحداث التغيير من حولنا ، وأنه حسبنا أن نبدل وسعنا كما في قوله تعالى:” فاتقوا الله ما استطعتم “.

والقدر معناه أن الكون والمجتمع يخضعان لنظام من الأسباب، والمسببات بعضها قد تكون داخل نطاق تأثيرنا وبعضها خارجه ، وتأثيرنا في النطاق الثاني يكون بالعمل على إنتاج ما يسمح به وسعنا وطاقتنا من تلك الشروط أو الأسباب  بينما سيظل بعضها خارج مكنتنا، وهو ما يعني من جهة اجتهادا لاكتشاف سنن الإصلاح والتغيير، ومن جهة ثانية استجماع الشروط لإنتاج الأسباب والشروط اللازمة لإحداث تلك التغيرات. وهو ما يمكن من جهة من تجنب الاصطدام بالسنن، ومن جهة ثانية من خلق حالة من السكينة النفسية والثقة في الله وفي موعوده  كما في قوله تعالى :” ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ۗ ومن يؤمن بالله يهد قلبه ۚ والله بكل شيء عليم “ و في قوله تعالى : ” مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ على  الله يسير لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا ُ والله لا يحب كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ”.

أما بالنسبة للاصطدام بالسنن، فإن الله تعالى جعل التكليف مرتبطا بالقدرة والاستطاعة كما في قوله تعالى : ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” وعلمنا أن ندعو بأن نتوجه له بالدعاء ” ربنا ولا  تحملنا ما لا طاقة لنا به “. وفصل علماء الإسلام في شروط الأمر بالمعروف عن المنكر.

ومنها القدرة والاستطاعة ومراعاة المآل واعتبار سنن العمران كما جاء ذلك في مقدمة ابن خلدون حين قرر قائلا : “ومن هذا الباب أحوال الثّوّار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء، فإنّ كثيرًا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنّهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبسون بهم من الغوغاء والدّهماء، ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السّبيل، مأزورين غير مأجورين.. لأنّ الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنّما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه..» (صحيح مسلم:49)، وأحوال الملوك والدّول راسخة قويّة لا يزحزحها ويهدم بناءها إلّا المطالبة القويّة الّتي من ورائها عصبيّة القبائل والعشائر كما قدّمناه، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيّدون من الله بالكون كلّه لو شاء، لكنّه إنّما أجرى الأمور على مستقرّ العادة والله حكيم عليم، فإذا ذهب أحد من النّاس هذا المذهب وكان فيه محقّا قصّر به الانفراد عن العصبيّة فطاح في هوّة الهلاك، وأمّا إن كان من المتلبّسين بذلك في طلب الرّئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنّه أمر الله لا يتمّ إلّا برضاه وإعانته، والإخلاص له والنّصيحة للمسلمين ولا يشكّ في ذلك مسلم”.

 أما التفكير الاعتباري فهو الفكر الذي يتجاوز الواقع المعيش إلى واقع أرحب زمنيا ومكانيا، وينطلق من التأمل في وقائع تاريخية فيجمع الأشباه والنظائر فيها، و يقيس وقائع طارئة على وقائع تاريخية باحثا عن ” القانون المشترك ” الذي يحكمها، وعن السنة المضطردة التي لا تتخلف كما في قوله تعالى ” قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين”.

وفيما أوردناه أعلاه عن ابن خلدون نموذج عن ذلك،  فليس صحيحا دوما أن الفكر  ينبغي أن يكون  مستبقا لواقعه، فالمساحة التي يشتغل فيها الفكر هي الواقع المعيش نعم ولكن أيضا الواقع التاريخي والواقع المتوقع أي المستقبل أو المآل المتوقع .

إن التفكير المنبثق من عنت اللحظة وتحدياتها والواقع وتعقيداته هو أحد أنواع التفكير، بل إن الاستجابة للتحديات هي أحد العوامل التي تفسر ميلاد الحضارات حسب توينبي. وهو علامة على حيوية المجتمعات وقدرتها على الملاءمة، والتعامل مع الاكراهات لمواجهتها أو التقليل من أضرارها. 

يصف البعض خطأ التفكير الاعتباري بأنه ليس سوى فكرا ” تبريريا” وليس الأمر كذلك علما أن ” التبرير” ليس دوما عمل سلبي سواء من الناحية المعرفية أو السيكولوجية ، فالتبرير معرفيا هو نوع من الحجاج والتدافعي الفكري ، وهو بهذا المعنى عمل سبق إليه عدد من الفلاسفة والمفكرين ، ومنهم فيلسوف الغرب الإسلامي ابن رشد حين ذهب يِؤصل لمشروعية التفكير الفلسفي من خلال استدعاء شواهد من القرآن والسنة في كتابه : ” فصل المقال بين الشريعة والاتصال ” وغيره كثير من القدامي والمحدثين.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى