محسن بنخلدون يكتب: رهانات صناعة محتوى رقمي دعوي مؤثر

في عالم تتسارع فيه التحوّلات التكنولوجية بوتيرة غير مسبوقة، ويشهد فيه الفضاء الرقمي تمددًا متزايدًا في التأثير والانتشار، أصبحت صناعة المحتوى الدعوي الرقمي ضرورة حتمية، وليست مجرد خيار إضافي كما كان يُعتقد في بدايات الألفية.

الوسائل الدعوية التقليدية رغم قيمتها ورسوخها التاريخي، لم تعد قادرة وحدها على ملامسة وجدان أجيال نشأت في بيئة رقمية، تقضي معظم أوقاتها بين المنصات والتطبيقات الذكية.
وتشير الإحصائيات إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت عبر العالم بلغ في سنة 2024 ما يقارب 5.5 مليار شخص، أي ما يعادل 68% من سكان الأرض، بزيادة ثلاث نقاط مئوية عن العام السابق.

أما في العالم العربي، فقد وصل عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى 274 مليون مستخدم، بنسبة تغطية تصل إلى 66% من إجمالي السكان. هذه الأرقام لا تدع مجالًا للشك في أن مستقبل الدعوة، بل وربما مستقبل الخطاب الثقافي والديني عمومًا، مرهون بمدى قدرة الفاعلين فيه على مواكبة هذا التحول الضخم.

هذه المعطيات تطرح سؤالًا مركزيًا: كيف يمكن للخطاب الدعوي أن يحافظ على عمقه الشرعي ومصداقيته في بيئة رقمية تتسم بالازدحام وتسارع الإيقاع؟ سؤال تقتضي الإجابة عليه الغوص في رهانات صناعة محتوى دعوي رقمي مؤثر قادر على التفاعل، الإقناع، والتأثير.

تحوّل الخطاب الدعوي من المنبر إلى المنصة الرقمية
لم يأتِ التحول من الدعوة التقليدية إلى الرقمية بمحض الصدفة أو عن قرار فردي معزول، بل فرضته جملة من التحولات الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية. فقد تغيّرت أنماط استهلاك المعرفة بشكل جوهري، حيث لم يعد الجمهور المعاصر يُقبل على الخطب الطويلة أو الدروس الرتيبة، بل بات يفضل المقاطع القصيرة، والرسائل البصرية المكثفة، والمحتوى المتاح في كل زمان ومكان.

إلى جانب ذلك، لعب انتشار الهواتف الذكية دورًا حاسمًا، حيث أصبح الجهاز المحمول نافذة دائمة على العالم، مما جعل من الضروري أن تكون المادة الدعوية في متناول يد المتلقي أينما كان. وفي ظل وفرة المصادر وتناقض المضامين، برز تحدٍّ إضافي يتمثل في ضرورة تقديم محتوى موثوق قادر على ملء الفراغ القيمي وتصحيح المفاهيم المغلوطة.

هذا المشهد الجديد فرض على المؤسسات الدعوية مراجعة أدواتها، واعتماد وسائل تستوعب منطق العصر، وتخاطب المتلقي بلغة تفهمها الأجيال الرقمية المتعاقبة. ضمن هذا السياق، تحولت المنصات الرقمية إلى المنابر الجديدة للدعوة. فأصبحت منصات مثل “تيك توك” و”إنستغرام” ساحات رئيسية تستقطب فئات الشباب والمراهقين، الذين يتفاعلون مع الفيديوهات الوعظية القصيرة ذات الفكرة المركزية القوية.

أما “يوتيوب”، فظل وجهة رئيسية للمحتوى الطويل والتحليلي، الذي يقدم دروسًا معمقة وردودًا علمية هادئة على شبهات فكرية. ولم تعد منصات مثل “فيسبوك” و”تويتر” مجرد فضاءات اجتماعية بل تحولت إلى ميادين للنقاش العام، تتيح نشر مضامين مختصرة وروابط تؤدي إلى محتوى أكثر عمقًا. أما تطبيقات البودكاست، فقد وفرت بديلًا مثاليًا للباحثين عن المعرفة أثناء التنقل، مما استدعى التركيز على الطرح الحواري الهادئ.

ومع هذا التحول، بات نجاح المحتوى الدعوي مرهونًا بمدى دقة إعداده تقنيًا ومضمونيًا، إضافة إلى ضرورة ضبط لغته البصرية، واختيار توقيت نشره بعناية.
ولإنتاج محتوى دعوي رقمي ذي أثر فعلي، تظهر الحاجة إلى الالتزام بجملة من الخصائص: بساطة اللغة دون تسطيح، جاذبية بصرية وصوتية تتسم بالهدوء والجمال، اعتماد السرد القصصي المستلهم من القرآن الكريم والسيرة النبوية، تركيز الطرح حول فكرة مركزية، والمرونة الكافية للتفاعل مع الأسئلة والأحداث الجارية دون التفريط في المبادئ.

تحديات صناعة محتوى دعوي رقمي فعّال

رغم ما توفره البيئة الرقمية من فرص واسعة، إلا أنها تنطوي على تحديات جدية لا يمكن تجاهلها. فالفضاء الرقمي، كما هو معلوم، يعج بملايين الرسائل المتضاربة، مما يجعل إبراز المحتوى الجاد تحديًا مستمرًا.

أول هذه التحديات يتمثل في تشبع الفضاء الرقمي بملايين الفيديوهات والمقالات التي تُنشر يوميًا، مما يحتم على المحتوى الدعوي أن يبحث عن تميّزه في الفرادة والقيمة المضافة. كما أن الضجيج الرقمي الناتج عن الإعلانات المتكررة والمحتوى الترفيهي الجذاب يضعف من حضور المضامين الجادة، ما لم تُحسن صياغتها وتقديمها. و تواجه الدعوة تحديًا إضافيًا يتمثل في صراع الأيديولوجيات، حيث تنتشر المضامين الإلحادية، التفكيكية، والمتطرفة، مما يستدعي تطوير خطابات ذكية ومتزنة قادرة على مخاطبة العقل والوجدان معًا.

من جهة أخرى، تفرض خوارزميات المنصات التجارية إكراهاتها الخاصة. فانتشار المحتوى لم يعد مرتبطًا بجودته فقط، بل أصبح رهينا بمدى تفاعل الجمهور معه، خاصة في الساعات الأولى من نشره. وتُشير تقارير 2024 إلى أن المنشورات التي تحظى بتفاعل قوي خلال أول ساعة من نشرها تزيد فرص ظهورها بنسبة 67%. مما يفرض على صناع المحتوى الدعوي مراعاة معايير النشر الذكي، من قبيل صياغة عناوين جذابة، اختيار وسوم دقيقة، والنشر في أوقات الذروة.

وعلى الرغم من أهمية الشكل، إلا أن المصداقية والمرجعية الشرعية تظلان الركيزتين الأساسيتين لأي خطاب دعوي. فالمحتوى، في النهاية، ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لنقل الهداية. ومن ثم، يتوجب الالتزام بالرجوع إلى المصادر الأصيلة، وتجنب الخطاب العاطفي المجتاح الذي يفتقر إلى التحقيق العلمي. كما يجب التحقق من الأخبار والمقولات المتداولة، خاصة مع انتشار الأخبار الزائفة بنسبة 42% حسب تقرير Reuters لعام 2024، مع الحرص على تنويع الأساليب بما يتناسب مع مختلف شرائح الجمهور.

استراتيجيات التأثير والانتشار للمحتوى الدعوي الرقمي

لم تعد صناعة التأثير رهينة بجودة الفكرة وحدها، بل أصبحت تتطلب بناء هوية بصرية متماسكة. وتشير دراسات Forbes لعام 2024 إلى أن المحتوى الذي يحظى بهوية بصرية موحدة يزيد من فرص تذكره بنسبة 80%. لذلك، يُصبح من اللازم تصميم شعار احترافي، وتوحيد الألوان والخطوط والأنماط، مع إطلاق حملات دعوية موحدة تركز على القيم الكبرى مثل الصدق والرحمة والعدل، ضمن إطار دليل أسلوبي منظم.

من جهة أخرى، أثبتت التجربة أن الفيديوهات القصيرة أصبحت الشكل الأكثر رواجًا وانتشارًا، مع ارتفاع معدلات استهلاكها بنسبة 23% سنويًا وفق بيانات Statista 2024. مما يجعل من الضروري استثمار القصص الدعوية الواقعية، إنتاج فيديوهات موشن غرافيك مبسطة، وإطلاق سلاسل قصيرة تحمل عناوين جذابة.

أما التفاعل مع الجمهور، فقد بات عنصرًا أساسيًا لنجاح أي خطاب رقمي. وتفيد دراسة HubSpot 2024 أن إشراك الجمهور يرفع معدلات المتابعة بنسبة 74%.وهذا يتطلب فتح باب التساؤلات، تنظيم بثوث مباشرة، تشجيع المتابعين على إعادة نشر المحتوى، وإطلاق مسابقات تعليمية تحفز التفكير وتوسع دائرة التأثير.

دعوة تواكب العصر وتحمل الأثر

إن صناعة محتوى دعوي رقمي مؤثر لم تعد ترفًا فنيًا، ولا سعيًا نحو الشهرة الرقمية، بل صارت واجبًا يفرضه الواقع الجديد. فالرسالة الإسلامية الخالدة، بثوابتها وأصالتها، تملك مفاتيح القلوب والعقول متى ما حُملت بلغة العصر وروح الحكمة. وإذا كان عصر الرقمنة يحمل تحديات جسامًا، فإنه، في المقابل، يفتح أمام الدعوة آفاقًا واسعة لمن يُحسن استخدام أدواته بعلم، وتخطيط، وبصيرة.

والله ولي التوفيق.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى