لمهى يكتب: من وحي كورونا المستجد  بالمغرب

تمهيد:

اقتضت سنة الله تعالى في خلقه، أن يبتليهم بالحسنات والسيئات، لقوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا، مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ، وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الأعراف: 168). والمتأمل في التاريخ يجد أن البشرية مرت بأوبئة وجوائح مختلفة؛ تنوعت بين الكوليرا، والطاعون، والانفلونزا، وغيرها من صنوف الكوارث التي أتت على البلاد والعباد، غير مفرقة بين المسلم وغيره، وكان للمغرب منها نصيب[1].

ولما كان المسلمون من خلق الله، يجري عليهم ما يجري على غيرهم، فقد ذاقوا الجوع وأصابهم القحط، وها هم اليوم إلى جانب باقي الإنسانية، يدركهم هذا الوباء الفتاك الذي وسم بـ”مرض كورونا المستجد”.

وفي حديثنا عن هذا الموضوع ـ موضوع الكوارث التي تصيب الناس عامة والمسلمين خاصة، لن يتوقف عند كل تفاصيله، وإنما سنركز في هذه المقالة على مسألة أساسية، نعتبر أن لها أهمية قصوى في معالجة مثل هذه النوازل التي باغتت الناس على حين غرة، وهي كيف تعامل ويتعامل المسلمون مع هذه الجوائح؛ سعياً نحو التغلب عليها والتقليل من أثارها السلبية، المتوقع حدوثها في واقع الناس الاقتصادي والاجتماعي.

فهل يوجد في تاريخ الإسلام والمسلمين ما يمكن أن يوجه الناس ويساعدهم على حسن التعامل مع هذه الابتلاءات التي تجاوزت قوتها قوة جميع أصناف الدول؟ هل توجد نماذج حية مشرقة يهتدي بها الناس في ظلمات هذه الأحداث التي جعلت الحليم حيراناً، وأعجزت من كان يظن أنه قادر على مواجهتا (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا)(يونس: 24).

محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة -السالفة الذكر، ستندرج في محورين أساسين نعرض لهما بحول الله، فالأول يتعلق بمساهمة المسلمين في زمن الجوائح، ونمثل لذلك بعثمان ابن عفان رضي الله عنه، والثاني يتعلق بالمغاربة وجائحة كورونا.

أولا: عثمان ابن عفان وتقلب أحوال الطبيعة

تذكر كتب السيرة أن المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتدت حاجتهم إلى الماء العذب؛ ولما كان المسلمون في أشد الحاجة اليه .. قام النبي صلى الله عليه وسلم يعرض على أصحابه تلك الصفقة الرابحة، فقال: “من حفر بئر رومة فله الجنة …»، ([2])، فقام عثمان -رضي الله عنه، السباق إلى كل خير فحفرها، ففاز بثواب كل من شرب شربة ماء أو توضأ من هذا الماء”([3]).

ومن تبرعاته -رضي الله عنه، تخصيصه قافلة تجارية لفائدة الفقراء أيام قحط المسلمين، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ” قحط الناس في زمن أبي بكر، فقال الخليفة لهم: إن شاء الله لا تمسون غدا حتى يأتيكم فرج الله. فلما كان صباح الغد، قدمت قافلة لعثمان، فغدا عليه التجار، فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه، وسألوه أن يبيعهم قافلته، فسألهم: كم تربحونني؟ قالوا: العشرة اثني عشر، قال: قد زادني، قالوا: فالعشرة خمسة عشر، قال: قد زادني، قالوا: من الذي زادك، ونحن تجار المدينة؟ قال: إنه الله، زادني بكل درهم عشرا، فهل لديكم أنتم مزيد؟ فانصرف التجار عنه، وهو ينادي: اللهم إني وهبتها فقراء المدينة بلا ثمن، ولا حساب“([4]).

بعد إمعان النظر في هاته المبادرات التي قام بها المعطاء عثمان ذو النورين، يتبين لنا كيف تعامل رضي الله عنه مع ما حل بالناس من كارثة، فلم يبخل بما أفاء الله عليه من النعم، مخرجاً جزءاً من ماله لفائدة الفقراء والمحتاجين، قاصداً بذلك وجه الله لا غير، بخلاف ما يفعله دعاة الخلاص الفردي؛ الذين يطلبون النجاة لنفوسهم ولا يهمهم غيرهم من ذوي الحاجة والفاقة.

لقد أنفق خليفة رسول الله ـ بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ سلعته لصالح الفقراء زمن القحط ولم يأخذ على ذلك مقابلاً ولا هو زاد من ثمن السلعة أو احتكرها، كما يفعله بعض ضعاف النفوس لحظة الشدة، وإنما آثر ما عند الله من أجر عظيم، على عرض الدنيا الزائل، فكان شعاره ساعتها: “زادني بكل درهم عشرا“، وكذلك يفعل الإيمان القوي الصادق في أصحابه، يظهر سلوكاً عملياً مستجيبا لنداء الله من فوق سبع سماوات: “وأنفقوا” في السراء والضراء.

وها هنا مسألة أخرى أحب الإشارة إليها، وهي حينما قام صهر رسول الله عليه السلام على مرأى ومسمع من الصحابة فاشترى البئر وتصدق بالقافلة، فإنما فعل ذلك في العلن ولم يخف ذلك، ليتعلم الناس منه خلقاً رفيعاً من أخلاق الإسلام وهو المسارعة إلى الخيرات والتنافس فيها، وكذلك يحسن بنا معشر المسلمين اليوم القيام بما سار عليه أحد العشرة المبشرين بالجنة، خصوصا ونحن نعيش حالة من الطوارئ الصحية بسبب وباء كورونا المستجد،[5] الذي نتج عنه اضطراب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

هذه بعض الصور المشرقة في تعامل المسلمين ـ زمن النبوة وما بعدها، مع أوقات الشدة ونقص الثمرات، فكيف تعامل المغاربة مع وباء فيروس كورونا المستجد بالمغرب؟

ثانيا: المغاربة وجائحة كورونا

مع ظهور فيروس كورونا المستجد بالمغرب، أصدر ملك البلاد محمد السادس حفظه الله، أمره السامي بإحداث الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا المستجد ـ كوفيد 19 ([6])، وذلك بغرض جمع التبرعات اللازمة للتغلب على هذا الوباء. ولم يكتف جلالته بالإحداث فقط بل كان سبَّاقاً إلى التبرع لصالح الصندوق، اقتداء وتأسيا بعمل الصالحين من أصحاب رسول الله عليه السلام ومنهم صاحب خصال البذل والعطاء عثمان، رضي الله عنه.

وتوالت بعد ذلك، جهود المساهمة في هذا الصندوق من لدن مؤسسات الدولة وكبار المسؤولين والموظفين باختلاف ألقابهم ومراتبهم وقطاعاتهم، كما بادرت الأحزاب السياسية، والمنظمات النقابية، ومؤسسات المجتمع المدني، ومنتخبو الجماعات الترابية، والغرف المهنية، والبرلمان بغرفتيه، ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات، كل هؤلاء ساهموا برواتب شهرية موجهة للصندوق.

أما رجال السلطة والإعلام فقد قاموا بواجبهم وزيادة من أجل ضمان حماية الناس وتحسيسهم بضرورة الالتزام بقواعد الحجر الصحي. أما جهود التطبيب فقد رأينا كيف تطوع الأطباء والمتقاعدون منهم لعلاج المرضى والمصابين، كما تجند العاملون في التعليم للقيام بواجب التعليم عن بعد، وقد رصدوا لذلك ما يملكون من الإمكانات حرصاً على استمرار الدراسة.

ومن مظاهر البذل التي أبان عنها المغاربة أيضا، بمناسبة هذه الجائحة ما يلي:

ـ تنازل بعض المكريين للمكترين على ثمن الكراء، خاصة تلك الفئة المتضررة من هذا الوباء، التي تسبب لها في فقدان الدخل الذي يمكنهم من تسديد ما عليهم من واجبات المتعلقة بعقد الكراء.

ـ مبادرة أهل الخير والإحسان إلى توزيع مواد غذائية لفائدة المحتاجين.

ـ تطوع البعض لابتكار أجهزة معدة للتعقيم والنظافة.

ـ وضع قنينات الماء الصالح للشرب ومواد التنظيف في الشوارع، ليغسل ويشرب منها المواطنون والمارة منها.

ـ تخصيص أصحاب السيارات الخاصة وسيارات الأجرة بأصنافها المختلفة ووضعها رهن إشارة أصحاب الحاجة مجاناً، أو بمقابل رمزي.

ـ خياطة الكمامات الوقائية وتوزيعها مجاناً على من يحتاجها، خاصة أولئك الذين يضطرون للخروج من منازلهم لقضاء مآربهم الضرورية.

ـ اقتسام بعض القصور والمداشر في العالم القروي منتجاتهم المحلية من خضروات، مع قصور مجاورة لها ألزمها الحجر الصحي بعدم الخروج.

ـ فتح الأنترنيت في وجه الجيران الذين لا يتوفرون على شبكة الأنترنيت الثابت، من أجل استثمارها في الحصول على المعلومات غير المتاحة في الإعلام العمومي، أو لغاية التمكن من متابعة الدراسة عن بعد.

ـ إيواء بعض الأفراد في البيوت، خاصة أولئك الذين لم يتمكنوا من السفر إلى بلدانهم قبل إعلان الدولة منع حركة السفر بين البلدان؛ حرصا على عدم تفشي الفيروس بين مدن المغرب.

 ـ تقديم الدعم والمساعدة لفائدة المواطنين الراغبين في التسجيل للاستفادة من دعم الصندوق الخاص بالجائحة، وخاصة تلك الفئة التي لا تحسن استعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة من حاسوب وهاتف وغيرها.

ـ تسديد بعض الميسورين ديون أولئك الذين عجزوا عن سداد ما عليهم من الدين لفائدة المتاجر وغيرها.

ـ المساهمة في الصندوق الخاص بجائحة كورونا، وذلك بإرسال رسالة قصيرة إلى الرقم 19 19، وهذه الرسالة تعدل ما مقداره عشر دراهم لفائدة الصندوق.

ـ قيام بعض الفضلاء بالتبضع لأقربائهم وجيرانهم رفعا للمشقة عليهم وتقليصاً لحركة الخروج من المنازل في هذه الظرفية العصيبة.

ـ مبادرة “طبيبك في دارك” أطلقتها حكومة الشباب الموازية المغربية، تروم تقديم الإرشادات والتوجيهات الصحية اللازمة للوقاية من الفيروس.

إن القاسم المشترك بين هذه المبادرات وأعمال عثمان رضي الله عنه هو العطاء والبذل وقت الشدة.

ذكرت من ذكرت من الجهات التي قامت بالتطوع من أجل التخفيف من آثار هذا الفيروس المستجد، وليلتمس لي العذر من نسيت ذكرهم من الأفراد والجماعات، ولكن حسبني أن الله لن ينسى صنيعهم أبدا، وهو الذي لا تخفى عليه خافية.

لقد ساهمت هذه المبادرات في إدخال الفرحة والسرور على قلوب ذوي الحاجة، كما خففت من آثار هذه الجائحة.

إن الجهود المبذولة السالفة الذكر تدل على قوة إيمان المنفقين ـ نحسبهم كذلك والله أعلم ـ وحسن اقتدائهم بخصال أصحاب رسول الله عليه السلام، كلما اشتد على الأمة أمر وضاق.

وختاما؛ فقد حاولت من خلال ما سبق التطرق إلى نموذج من أمثلة تعامل المسلمين ـ إبان عهد النبوة، مع الجوائح، وما ترتب عليها من آثار اقتصادية واجتماعية، وكيف قدم عثمان رضي الله نموذجاً وقدوة حسنة في الإنفاق والتوسعة على المسلمين في مثل تلك الظروف العصيبة. وما أبان عنه المعدن النفيس من المغاربة من العطاء المتنوع مع ظهور جائحة كورونا، الأمر الذي تجددت معه ـ وينبغي أن تبقى مستمرة ـ قيمة أساسية من القيم الأصيلة لدى المسلمين عامة والمغاربة خاصة.

فاللهم أعط هؤلاء المتبرعين ما أعطيه عثمان من البيت في الجنة، على ما قدموه لفائدة المحتاجين في هذا الظرف العصيب. اللهم بارك جهود كل العاملين في ساحة مواجهة هذا الوباء. كما نسأله تعالى رفع البلاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

بقلم: ذ/ عبد الحق لمهى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

  • [1]  ـ محمد الأمين البزار، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، المملكة المغربية، جامعة محمد الخامس منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة رسائل واطروحات رقم 18، 1992م، رقم الإيداع القانوني 887.
  • [2] – محمود المصري، أصحاب الرسول، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى-1426هـ 2005م، صـ 166. بتصرف.
  • [3]  ـ م نفسه صـ 166.
  • [4]  ـ نفسه، صـ 170.
  • [5]  ـ المملكة المغربية، الجريدة الرسمية النشرة العامة، السنة التاسعة بعد المائة. عدد 6867 مكررـ 29رجب 1441 / 24 مارس 2020/. 1782
  • [6]  ـ المملكة المغربية، الجريدة الرسمية النشرة العامة، السنة التاسعة بعد المائة. عدد6865 مكررـ22رجب 1441 / 17 مارس 2020/. 1540

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى