كيف ساهم مفهوم النسوية في تقزيم دور المرأة؟ – مريم رضوان

في مواجهة الإنسان الجديد لتحديات العصر الحديث، تبرز في كل مرة مفاهيم قديمة بأسماء جديدة ومختلفة، حتى يكاد يجزم أنه هو من ابتدعها لاختلاف ظاهرها جوهريا مع ما كان يقرأه أو يسمعه عنها. إلا أن حقيقة الإنسان أبسط من أن يكون ذا هو حالها، ذلك أن تركيبته التي خلقه الله بها، ومعطيات إدراكه وفهمه لا زالت هي نفسها منذ خلقه لأول البشر آدم عليه السلام، وما توالي الأحداث والقرون إلا تثبيت لتلك السنن، وقد جعل الله لنا العبرة في قصص السابقين لعلنا نفقه ونعتبر.

موضوع هذا المقال هو عن مفهوم النسوية وكيف أنه كان من نتائجها تعميق أزمة المرأة عوضا عن تحريرها من قيد الدونية والاستصغار من قيمتها، مقارنة بالرجل، فضلا عن كونها قد ساعدت على جلب مزيد من الظلم إلى فئة معينة من النساء على حساب تحرر أقلية صغيرة واكتسابها لحقوق كاملة تضمن لها العيش بكرامة على الأقل، كما بينا في إحدى المقالات السابقة.

لقد ظهر مفهوم النسوية في الغرب كحاجة ملحة للمطالبة بحق المرأة ومساواتها بشكل متطابق مع الرجل في الجوانب الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية وذلك حين كانت تفتقد إلى ما يشعرها بأنها ذات قيمة مستقلة، إذ كانت في إنجلترا مثلا تورث كمتاع لا حق له في تقرير المصير أو الامتلاك. ثم تطور المفهوم ليتخذ طابعا فلسفيا حين بدأت الدعوة إلىإعادة قراءة التاريخ واللغة والأدب والنقد وغيرها من مجالات المعرفة قراءة نسوية تقوم على التمركز حول الأنثى والانتصار لها في صراعها الوجودي مع الرجل، إلى أن وصلت الدعوة إلى إعادة قراءة الدين وكتبه، ودون حاجة إلى تفصيل أكثر، عكف بعض المستشرقين على تفسير القرآن بحجة أن كتب التفسير ألفها رجال وأنها لم تنصف غيرهم، إلى جانب أفكار أخرى، وتم استغلال الفكرة كمدخل جديد لاقتحام الشرق ومد اليد إلى من له قابلية للتبعية ليفعل.

وأما الحاصل آنذاكفي العالم العربي، فقد كان مختلفا عن الغرب، كما كان الحال أيضا حين ظهر مفهوم النسوية، مع درجة من التشابه في كون المرأة قد تعرضت للتهميش وبعض من التشييء في كثير من المجتمعات والثقافات، والتي لم يسلم منها غير العالمين حقا بحق الدين، فكانوا المحافظين على التوجيهات الربانية والمنهج النبوي في التعامل مع المرأة، فكان مبدأ”النساء شقائق الرجال في الأحكام”، ومبدأ “رفقا بالقوارير” من المبادئ المؤطرة لسلوك الرجل، حتى مع تشوه العديد من مناحي التدين.. ففي الوقت الذي كانت فيه المرأة في الغرب والشرق غير المسلم تُملك، كانت المرأة المسلمة تَملك ما لا يملكه إلا قلة الرجال، بل وفعلت بذلك المال ما جعل الرجال والأمة الإسلامية يدينون لها بكرم وسخاء، فعلى سبيل المثال، بنت فاطمة الفهرية رفقة أختها صرحا علميا ودينيا ظل شاهدا على مكانة أرفع القيم في الإسلام، حيث امتزجت مختلف مكونات الحضارة من إنسان وتراب وزمن، جمع بينهم مكون الدين في بناء جامع القرويين ليكون منارة فقه وعلم وسياسة لقرون متتالية، ويحظى بشرف ما أطلق عليه في المفاهيم الحديثة لقب أول جامعة في العالم.

غير أن الذي يحدث حين يتم تلفيق حل غير متطابق لمشكل طارئ في وسط، ودارج في وسط آخر مختلف هو أننا نزيد الطين بلة، وعوضا عن المساهمة في معالجة ما فسد، نزيده فسادا.. وهذا بالضبط ما حدث مع موضوع النساء في المجتمعات الإسلامية، بعربها وعجمها، مع فارق الخصوصية التي تحظى بها كل دولة على حدة.

لقد شكل مفهوم النسوية نمطا خاصا تكون عليه المرأة داخل مجتمع الدولة الحديثة، وهو نمط أحادي الشكل، طبقا لناحثي المفهوم، ورغم كل محاولات الملاءَمة التي حاول القيام بها بعض المجتهدين من ثقافات مختلفة، لم تتلق ردود فعل إيجابية من طرف الجهات التي نصبت نفسها ذات الحق الوحيد والأوحد في الحديث بلسان النسوية، بل ولم يتم الأخذ بعين الاعتبار ما قدموه من إسقاط وتقييم ونقد، لأنه لا ينسجم مع جوهر الفكر النسوي القاضي بالانتصار على الرجل.  فدخلت الدول الإسلامية في مأزق كبير حين قررت الانخراط في هذا الطرح، مع التنويه بأن القرار لم يكن فعليا قرار دول في البداية، وإنما توجه أبناء المسلمين الذين أعاد الغرب تربيتهم من خلال برامج البعثات أيام الحماية والاحتلال والاستعمار، فكان من نتائج كل هاته الفوضى أن تقوم المرأة في مجتمع الحداثة لتدافع عن حقوق تجلب لها التعاسة والشعور بالخيبة والتناقض، وعوضا من أن تقترب من فهم الذي خلقت له، صارت تسعى لتكون على ما رسمته النسوية كنمط للمرأة السعيدة.

وعوض أن تشارك الرجل في توسيع آفاق الفكر والحياة لتشمل الآني والأزلي، أضحت مستغرقة في تدبير الشأن اليومي بما يجلب لها حضورا ظاهريا في المجتمع إلى جانب الرجل، وعوض أن تنشغل بالتخطيط الحضاري لتنشئة جيل يقود أمة، أو تشارك في ذلك فعلا، إن كان برأس مال تملكه أو بحكمة تترجمها في قرارات تعلي شأن من تنتمي إليهم بالنسب أو العلم أو الدين، صارت تبحث على كيفية ملاءمة الصورة التي تتمناها، والموافقة للنمط المرغوب من طرف من توادهم، فلمتعد مظاهر التدين المتعارف عليها حاجزا أمام تشخيص الصورة، بل صارت -المرأة- أقدر على نحث المظاهر نحثا يشبه ما يوافق رغبتها، وأصبح الالتزام أمرا مرتبطا بما تطرحه هي كأسلوب، لا بما يجب أن تكون عليه في ميزان الشرع.. فلا يمنعها إذا من أن ترتدي حجابا أو إسدالا أو برقعا أن تخل بجوهر العفة والحياء الذي هو شعبة من شعب الإيمان، دون أن تقر بكونه خطأ، وأن يعامل الناس بعد ذلك من هو ملتزم بدينه على أنه السباق إلى انتهاك الحرمات، بما أشاعه عنه من يتصرف على خلاف ما هو عليه في الحقيقة، حيث أن الانسجام يفرض أولا وجود قناعات عميقة بالأفكار المتحكمة في السلوك بعد ذلك، وهو ما صار نادرا في عصر التماهي بين العرف والعقيدة.

ومن جهة أخرى، كم تثير دهشتي تلك القدرة التي تملكتها هاته الفكرة لتستطيع بذلك تغيير أجيال متتالية من الرجال والنساء وإعادة تربيتهم على هذا المبدأ، وهنا نشير إلى أهمية الحديث عن الطرفين في كل مرة يتم فيها فتح نقاش النسوية، إذ أن المستفيد الأكبر من تنزيل أهم أفكارها واعتماد أنماطها هم رؤوس الأموال العالمية، والذين هم في الغالبية العظمى رجال تتوسطهم امرأة أو اثنتان، إن احتسبنا الانتماء لعائلة مالكة. وبالتالي إن نحن دققنا النظر فيها، سيجوز لنا القول أنها في النهاية لا تختلف كثيرا عن النظريات الرأسمالية العالمية، كالرأسمالية الليبرالية مثلا، وبهذا يُنزع عنها كل صفة أخلاقية لا تكون بالضرورة جزء ذا قيمة في تشخيص الغاية.

وحين ننظر إلى المرأة من زاوية الإسلام، كما تحدث عنها القرآن وكما كان حضورها إلى جانب الرسول عليه الصلاة والسلام في سيرته، فإننا نقف أمام مجموعة من الملاحظات، أهمها:

  • أن المرأة في الإسلام كانت تساوي في القيمة الرجل في الإسلام، دون زيادة ولا نقصان.
  • أن المرأة في الإسلام كان لها من حقوق على الرجل ما يراعي طبيعتها الرقيقة، كما كان للرجل في الإسلام حقوقا عليها بما تستوجبه طبيعته الصلبة والمندفعة.
  • أن المرأة في الإسلام كانت شريكة للرجل في مشروع الاستخلاف، بما يوافق ظروفهما معا، بل أن وضعهما في الآخرة مرتبط بوضعهما في الدنيا، وفي ذلك استمرارية سرمدية مشروطة، تتجاوز في جمال التأمل فيها كل القصص المفعمة بروح الأساطير الخيالية.
  • أن المرأة في الإسلام لها أهداف حضارية كبرى تعيش لأجل تحقيقها، دون أن تقمع فطرتها التي فطرها الله عليها، وأن النمط الذي حدده الإسلام لها هو نمط خاص بها كذات مستقلة، يختلف عن كل مثيلة لها، لأنه نمط محدد بضوابط واسعة، تكون هي المسؤولة على تنزيل المستطاع منها، دون إرهاقها بما لا تقوى عليه من جهة ودون تبخيس لما تستطيع القيام به من جهة أخرى، ما دام مؤطرا بشرع الله.
  • أن المرأة في الإسلام محمية بموجبه أصلا، ولا تحتاج بعد ذلك إلى ما أو من ينصفها إلا كما يحتاج الرجل.

وخلاصة القول، أن الأفكار التي قدمت بها النسوية لا ينبغي للمسلمين دراستها قصد الملاءمة والتنزيل، بل ينبغي عليهم الانطلاق من دينهم لإعادة تشكيل الصورة التي يضع فيها الله سبحانه وتعالى الإنسان بمكونيه، رجالا ونساء، في إطار شامل يعملان فيه على عبادة الله وإعمار الأرض بما يرضيه، حيث يكون دور المرأة أكبر من أن يختزل في أدوار صورية أو سطحية أو إجرائية، دور حضاري بامتياز، إلى جانب الرجل. وأما تلك الأفكار الهجينة التي تقلص من قدراتها في صناعة مجد للأمة وتسفيه المساهمة اللامادية التي تقدمها المرأة والتي لا يجيدها أحد مثلها، فحري بمن يدرسها أن يوجه المستفاد منها من ملاحظة وتدقيق إلى من لا يملكون دينا يقدم لهم ما وضح من تصور حول المعلوم والمطلوب، والله المستعان.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى