قِراءة في كتاب آثَار المصلِحين في سِيَر ثُلّة من العلمَاء والمجَاهدين – عبد العزيز الإدريسي

الكتاب الذي بين أيدينا جولةٌ مباركةٌ في آفاق سيَر بعض العُلماء المجَددين والرُّواد المصلحين، وهي جولة تجْمع بين  مخاطبة القلب ومحاورة العقل، تخاطب الفكر و تحاور الوجدان بلغة عربية رشيقة ومعلومات مكثفة، تجعل القارئ للكتاب يعيش في مقامات سامقة من الفخر والعنفوان، ذلك أن النماذج المختارة وهي بعدد أصابع اليد الواحدة تشكل منارات للاهتِداء والاتِّساء في مجَالات عطائها وميادين تميزها، بل و تسهم في بعْث الوظِيفة التربوية لقِراءة سيَر السابقين، بماهي تربية روحية وفِكرية وجماليَّة وأخلاقية وتهذيبية دلَّ على ذلك قول  الصَّحابي  الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( مَن كانَ مُسْتَنًّا ، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، أولئك أصحابُ محمد – صلى الله عليه وسلم – ، كانوا أفضلَ هذه الأمة : أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه ، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعُوهم على أثرهم، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم ).

إنَّ الكتاب الذي سنُحاول تقريبه للقُراء والمهتمين، من تأليف المجَاهد الحُجَّة والأستاذ الفاضِل والمثَقف المناضِل المقرئ الإدريسي أبي زيد حفظه الله تعالى، وقد اختار له العُنوان الجمِيل المعبر والدَّال: “آثَار المصلِحين في سِيَر ثُلّة من العلمَاء والمجَاهدين”، الصَّادر عن قسم   الإنتاج العلمي والفكري لحركة التوحيد والإصلاح في طبعته الأولى فبراير2020م، مطبعة سليكي أخوين بعروس الشمال طنجة، والذي يتكون من 109صفحة الحجم المتَوسط.

والكتابُ الذي بين أيدينا، يتضمن التعريف بخمْسة من الأئمة الأَعلام والعلماء الكِرام الذين أبلوا البَلاء الحَسَن في خدمة الإسلام والذَّود عن الحضَارة والأمة الإسْلامية كلٌّ من موقعه وحسَب سياقه وتحديات عصره ومجتمعه، وهم على التوالي:1- يوسُف بن تاشفِين،2- محمَّد بن عبْد الكَريم الخَطابي،3- محمَّد المخْتَار السُّوسي،4- عَلي عزَّت بيغوفِيتْش،5- فَريد الزَّمان الأنصَاري.

1 – في رمزَيَّة العُنوَان ودَلالاتِه

أكيد أن من بيْن أهم الصّعوبات التي يواجهها المؤلف هو اختيَار العنوان الدال على مضمون مؤلفه وكتابه، لأن العنوان يحتمل موقع الصَّدارة من أي كتاب، وهو العتبة الأولى التي تواجه المتَلقي قبْل الدُّخول إلى مَتْن الكِتاب ومضَامينه.

و كان اختيار العنوان موفقًا إلى حد كبير ، لأنه منسَجم مع مرجعيَّة الأستاذ الفكرية ومذهبيَّته الحضَارية التي تجعَل  من الرُّؤية  القرآنية  حاكمةً  لجميع  مقُولاته المنهجية   و مُهيمنةً  على اختياراته  الثقافية  ، ولا  شك  أن  الحديث  عن آثار  المصلحين  ينسجم  تمام  الانسجام  مع قوله  تعالى : ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾  وقوله  تعالى  ﴿  لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُومِنُونَ ﴾  .

إن هذا العنوان يكثِّف أهمية دور العلماء والقادة في الإصلاح، ذلك أن أبا زيد لا يتحدث على فكرة الصلاح على أهميتها وفضلها، وإنما يتحدث عن منهاج الإصلاح وسر الإصلاح من خلال سير هؤلاء المصلحين، كيف لا وهو أحد المنظرين للمشروع الإصلاحي للحركة الإسلامية المعاصرة، بالإضافة إلى جمالية وعمق العناوين الفرعية كما سنرى بحول الله تعالى!

ومن الأمور التي وجب التنبيه عليها أن الكتاب في أصله عبارة محاضرات ومشاركات للأستاذ الإدريسي، تمت تفريغها، لأن محاضرات المقرئ الإدريسي على كثرتها وتنوعها تشكل كنزا معرفيا وتراثا سمعيا، فالشكر موصول للأخوين الفاضلين والباحثين الشابين محمد بن ادريس العلمي وإبراهيم فنزاوي على مجهود التفريغ والرقن، والتصحيح والترتيب، وشكرا لقسم الإنتاج العلمي والفكري وعلى رأسه المهندس فيصل الأمين البقالي على هذا الإخراج القشيب.

2 – الأمِير يُوسف بن تَاشَفين: إشاراتٌ ومَشاهِد

بدايةً  يؤكد  الإدريسي أنه  لا  يُمكن  أن  يكون  محَايدا في مثل  هذه  المواضيع ، لأن  الموضُوعية  لا  تعني  الحِياد، بل هو منحَاز  بمنهجيةٍ  علميةٍ  ومعرفيةٍ  لا  تؤثر  في  التَّعريف  بالرجُل،  رغم أن  شخْصية  ابن تاشفِين   تملك  قلب وعقل  وروح  المؤلف، فهذه الشَّخصية  الشَّامخة  تُعتبر  بلسما شَافيا يتعزى به  المسلمون  في  زمن  الإحباط والانحطاط، بل  وتسهم  في  بناء  الوعي  الوطني  للأمة  الإسْلامية  على  حد  تعبير  صاحب  النُّبوغ  المغربي عبد الله  كنون، الذي حاول  مقاومة سياسة  التَّجهيل  الممنهج  من طرف  المستعمر  الفرنسي ، وتحْييد  جميع  الأئمة  الأعْلام  من  المنَاهج  الدراسية والبرامج  التَّعليمية.

ولذلك ظل ابن تاشفين مغمورًا رغم عظمته، لأن دولة ما بعد الاستعمَار جاءت لكي تستمر في سياسة الاستعمَار، يقول المقرئ:”…ووجدت كتبا عن أناس لا يصِلُون إلى كعب يوسُف بن تاشفين، كُتب عنهم أكثر من كتَاب..” .

ويوسف  بن  تاشفين  كما  وصفه -خلْقا  وخلُقا-  صاحب  الأنيس  المطْرب :”..صفته، أسمر اللون  نقيه، معتدل  القامة نحيف  الجسم، خفيف العَارضين، رقيق  الصوت، أكحل  العينين، أقنى الأنف، له وفرة  تبلغ  شحمة أذنيه، مقرون  الحَاجبين، جعد  الشّعر…وكان رحمه  الله  بطلا  نجدا شجاعا  حازما مهابا ضابطا لملكه، متفقدا الموالي من رعيته، حافظا  لبلاده وثغوره، مواظبا  على الجهاد، مؤيدا منصورا، جوادا كريمًا  سخيًّا زاهدا  في  الدنيا، لباسه  الصّوف، لم  يلبس قط  غيره، وأكله الشعير  ولحوم  الإبل وألبانها، مقتصرا على  ذلك، لم  ينتقل  عنه مدة عمره  إلى  توفاه  الله، رحمه  الله  تعالى على ما منحه  من سَعة الملك في  الدُّنيا..” .

وقد تولى ابن تاشَفين حُكم دولة المرابطين وعمرُه خمسين سنة، وتوفاه الله وعُمره مئة سنة، بمَعنى أنه حكم نصف قرن، استَطاع من خلال هذه المدَّة التمكين لدولة المرابِطين في الأندلس والمغْرب، ودون التعمُّق في تقديم الشَّهادات والكَثيرة التي أوردها المؤلف، فإن المرابطِين بقيَادة يوسف بن تاشَفين استَطاعوا تخليص المغرب من التَّمزق السّياسي والمظالم الاجتَماعية والاقتَصادية.

ابن تاشفين الإمَام العَادل والخليفة الزاهد،لم يأخذ شيئا من غنائم “معْركة الزَّلاقة”، بالإضافة إلى أنه رفضَ أن يلقب ب”أمير المؤمنين” واكتفى بِلَقَب “أمير المسْلمين” حفاظا على الوحدة الاعتبَارية للمسلمين، وفي أواخر حياته، وعند احتضَاره أوصَى يوسُف ابن تاشفين بوصَايا تؤكد زُهْده وورَعه والتزامه بأحكَام الشَّريعة، وهذه الوَصَايا هي:

أوصَى أشياخ المرابِطين بعدم الاقْتتَال على حطام الدنيا.

أوصاهُم بالرِّفق بالنّاس، والحِرص على الشَّريعة.

أوصَاهم بالوفاء لابن هود-أحد أمراء الأندَلس- والحِرص على الأندَلَس.

3 – محمَّد بن عبْد الكريم الخطَّابي: المجَاهٍد المرَبّي

” ..فهو عِملاق من عمًالقة البَشرية جمْعاء بدُون مبَالغَة” بهذه العبارة يُدَبج المقرئ حديثه عن المجَاهد الرَّباني محمد بن عبد الكَريم الخَطابي، الذي جمَع إلى جانب الذَّكاء قوة الشخصية والصلابة، والصبر على الشدائد، والكتمان والتحمل، وحسن المداراة والمرونة والواقعيَّة، والحِنْكة وفقْه الوَاقع.

وفي البداية يؤكد المقرئ أن المجَاهد الخطابي بريء من تهمة العمالة للمحتل الإسبَاني، رغم بعض المحولات البئِيسة التي تحاول الربط بين عمله تحت وصَاية المحتل في جريدة إسبانية “تليغراف الريف”، أو مخالطتهم عندما كان قاضيا بمدينة مليلية سنة 1914م، بعد حصوله على شهادة العَالِـمِيَّة من جامعة القَرويين.

عاصَر الخطَّابي أحداثًا عظيمة ووقَائع مِفصَلية في تاريخ المغرب والعَالَم بأسره، فمن عزْل المولى عبد العَزيز، ومبايعة المولى عبْد الحفيظ، إلى الحرب العَالمَية الأولى والثانية، مرورا بسقُوط الخِلافة العُثمانية، وتأسيس الحَركة الوطنية إلى المطَالبة بالاستقْلال، وتدبِير الخِلاف السيَاسي وتنظيم القُوات المسَلحة، والموقف من القَضية الفِلسطينية…، كل ذلك وغيره مهَّد للخطَّابي ليقُوم بأدوَار طَلائعية كُبرى في مقَاومة الاستعْمار، ونضَاله العَالمي، ودعم حَركات التَّحرر الوَطني، يقول العلامة علال الفاسي:”وقد سمعت أكبر زعماء البلاد العربية الذين وفدوا إلى القاهرة بعد نزوله بها، يؤكدون تأثير الثورة الريفية على اتجاههم السياسي والنضالي في سبيل الحرية والاستقلال…” .

ولا شك أن تأثير الخطابي كان يرجع إلى تميزه في الجَوانب الاسْتراتيجية والعسْكرية والسِّياسية والنضَالية، ولكن السِّر في ذلك كله يرجع الجانب التربوي في برنامجه التحرري، فقد كان حريصا كل الحرص رغم الحِصار والمطاردة على إنشاء المدَارس واستِقدام خير المعلمين والأطر الذِين يرسِّخون الوعي التحرري على المستوى البيداغوجي، كما أنه يواكب المعلمين فيجتمع معهم ويحثهم على القراءة لأفكار الرواد من قبيل الأفغاني ورشيد رضا ومحمد عبْده والكَواكبي.

وفي مقاومته للاستعمار كان حريصا على التربية الدينية للمجاهدين، بالإضافة إلى التربية السياسية المرتكزة على نقطتين:1- المرونة والمداراة،2- الوحدة والتوحيد. يقول المقرئ أبو زيد رادا تهمة الانفصال عند الأمير الخطابي:” بل إنني أرجح أن تسمية حكومة الريف ب”جمهورية” يعود إلى غبش المصطلحات في الفكر السياسي خصوصا في المراحل الانتقالية،(إذ نلاحظ مثلا أن أول حزب تأسس في المغرب سمي ب”الزاوية” لضغط  القَاموس الصُّوفي لأنه لم يكُن في الحَقْل السِّياسي واللغوي المغْربي، مصْطَلحات  رائجة تسمى بها الأحزاب) فكأن استعمال “الجُمهورية” هو تبرئة لنفْسه من أن يصطَنع مملكة تُنافس المملكة المغربية، فقْد  كان الأمير الخَطابي يرفضُ النزوع الانفِصَالي، ويؤكد على الوَطن الواحِد الموحَّد، فكأنه أقرب إلى معنى : إمارة، تصِير منْطقة لا دوْلَة، تُمثل بدِيلا عن الوَطن الأصْلي” .

4 – محَمد المخْتار السُّوسي: دَوائِر الانتِمَاء

العلامة المختار السوسي علَم لا كالأعلام، وشخصية لا كالشخصيات، فقد جمع بين الفقه والشعر بين التاريخ والأدب، والسياسة والنضال الوطني، وكتبه الكثيرة شاهدة خالدة، غير أن المقرئ الإدريسي ركز حديثه في نقطة فريدة، وهي كفيلة ببيان تفوقه وتألقه ونبوغه، ذلك أن قضية “دوائر الانتماء” في المشروع الإصلاحي للعلامة المختار السوسي يتفاعل فيها الوطني والإسلامي والإنساني في إطار الإشكالات الهُوِياتِية التي تجعل التَّقاطب داخل المجتمعات في كثير من الأحيان صداميا عوض أن يكون تعارفيا تكامليا.

في هذا السياق بيَّن الأستاذ الإدريسي أن للعلامة المختار السوسي دوائر متعددة للانتماء ومتنوعة ومتفاوتة، فهو الرجل القرآني الذي حفظ القرآن على يد والدته، التي كانت تشرف على تحفيظ الأطفال القرآن في زاوية من مسجد والد المختار-سيدي علي الدرقاوي- الذي كان له دور تجديد الزَّاوية الدرقَاوية، والتي ستحمل السِّلاح فيما بعد في وجه المستعمر.

 ينطلق العلامة المختار السوسي من الدائرة الأولى هي بيئته “إلغ” ثم يتحدث عن دائرة أوسع وهي انتماؤه إلى “سوس”، ثم يتحدث عن دائرة أوسع منها وهي وطنه المغرب، ثم انتماؤه إلى الأمة العربية، ثم انتمائه إلى الدائرة الإسلامية الكبرى، ثم الدَّائرة الإنسانية الواسعة. وهي دوائر متداخلة أفقيا وعموديا، مع دوائر وظيفية أخرى انتمائه لدائرة العلماء ودورها الوظيفي، ودائرة الصوفية في بعدها الإصْلاحي، بمعنى أن المختار السوسي كان متحيزا في إطار الدوائر التي ذكرنا، دون تعصب أو انغلاق أو عنصرية.

قلت: يا ليْت بعض زعماء الحركة الثقافة الأمازيغية العُنصرين قرأوا شخصية العلامة المختار السوسي بهذا المنظور الواسع، الذي يجعل دوائر الانتماء تتكامل ولا تتعارض، وبالتالي الإعراض عن كثير من السِّجالات الفارغة والنِّقاشات والصِّراعات التي تضيع الوَقت والجهد والزمن الحضاري للأمة.

5 – المجَاهد علي عزَّت بيغوفِتْش: جِهاد الفِكر والسِّياسة ،1925-2003م.

أكَاد  أجزم  أن  الذي  أدخَل  فكر المجاهد المجتهد  الرئيس  الفيلسُوف  علي  عزت بيغوفتش إلى المغرب، وعرف  به  أبناء الحركة  الإسلامية  خصوصا  والطبقة  المثقفة  عموما هو الأستاذ المقرئ  أبو  زيد  الإدريسي، من  خلال  المحاضَرات والحمَلات للتضامن مع شعب البُوسنة والهرسك  الذي  كان  يتعرض للإبادة والتصفية  العنصرية وقتئذ، ثم  من خلال المحاضرات التي كانت تعَرِّف بفكر هذا الرجل، ثم  من خلال  نشر  كتبه وطبعها  بالمغرب وأهمها  “الإعلان  الإسْلامي” و ” عوائق النهضة  الإسلامية” في جزأين، وكتَاب “الإسلام  بين  الإسلام  والشرق”.

سيرة علي عزت تشكل بمجموعها مثالا للمكابدة والمجاهدة للرجل المؤمن الذي أسلَمَ أمره إلى الله تعالى، لأنها مكابدة تخبر عن حقيقة معدن الإنسان الذي جمع بين جوانية الفكر الإسلامي وبرانية الفكر الغربي في توليفة لا يستطيعها إلى من عبَّ من المرجعيتين حدَّ التضَلُّع، ولذلك كان أول عمل قام به علي عزت بعد خروجه من السجن الذي مكث فيه طويلا، وأصبح رئيسا لجمهورية البوسنة والهرسك سنة 1990 أن أصدر العفو الشامل على كل الذين عذبوه وظلموه وآذوه وأسرته، متمثلا سماحة الإسلام ومظهرا سفاهة الغرب.

تكمن المرجعية الفكرية والفَلسفية لعلي عزت بيجوفيتش في الفِكر الإسلامي ببعده الحضَاري الإنساني من جهة، وفي الفكر الغربي من جهة أخرى، وهذا  مبثوث  في كل  كتبه خصوصا  كتاب “الإسلام بين  الشرق والغرب”، ذلك أن قيمة أفكار عزت ترتبط ارتباطا بسياقات تولّدها وإنتاجها ويؤكد هذا المعنى علي عزت من خلال تصديره لكتاب “هروبي إلى الحرية” بقوله: “فقيمة هذه الأفكار لا تكمن في الأفكار ذاتها، ولكن بالأحرى في الظروف التي كُتبتْ فيها، فعلى هذا الجانب من الجدار كان هناك الصمت المطبق داخل السجن، وفي الخارج كان ثمة  إشارات  لعَاصفة ستتحول في عام 1988 إلى إعصار سيسحق جدار برلين، ويُطيح بكل من هونيكوو شاوشيسكو، ويقضيع لى حلف وارسو، ويزلزل الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا…” .

علي عزت بيغوفيتش استطاع أن يجمع بين الفكر والسياسة وأن يستمر في هذا الجمع النموذجي، رغم صعوبة الأمر، لأن الفكر غالبا ما يكون مثاليا، والسياسة واقعية، فيحصل التناقض بين الخطاب الفكري والممارسة السياسية، ويدلل على ذلك الأستاذ المقرئ من خلال “مأساة البوسنة والهرسك” و”مفهوم الحرية” و “عوائق النهضة الإسلامية”.

الرئيس المجتهد المجاهد علي عزت مفكر عميق ودقيق، يتأبَّى على التسطيح والسطحية، كان مهموما بوطنه وأمته والإنسانية الأمة الإسلامية عامة، ولولا تحمله لمسؤولية رئاسة الدولة في لحظة تاريخية حاسمة ومفصلية، و تفرغ للكتابة والتأليف لكانت مؤلفاته بالعشرات، ولأغنى المكتبة الإسلامية برؤاه الاستشرافية وأطروحاته الإصلاحية والنهضوية المتجاوزة والمستأنفة.

6 – العلاَّمة فَرِيد الزَّمان الأنْصَاري: الرَّجل والمشْرُوع،1960-2009م

كل من قرأ هذا الأسطر التي حررها المقرئ الإدريسي على قلتها، ولكنها تكتنز معاني إيمانية وأبعاد إنسانية، إلا وأحب العلامة فريد الأنصاري رحمه الله، وإن لم يلتقه، فكيف بمن تتلمذ وصحبه أو تقاسم معه هم المشروع الإصلاحي الكبير الذي انخرط فيه ونقده تقويما وتطويرا، إحياء وبعثا.

 في توطئة تعريفية، يؤكد أبو زيد أن فريد الزمان رحمه الله تعالى عاش عمره بالعرض والطول معا، فقد أنجز في أقل من خمسين سنة ما لا يستطيع الآخرون إنجازه في أعمار أطول، وهذا يرجع إلى البركة في العمر التي يخص بها الله تعالى من يشاء.

فريد الزمان رجل جمع بين العاطفة والفكر، ففريد أحب كل الناس، وقد تحقق له الاجماع في الحُب من طرف الناس، بل إن الأتراك أحبوه بطريقة عجيبة، رغم حاجز اللغة، اجتمع في فريد حبُّ الشَّعب وحب الدولة، حب المسؤولين وحب المواطنين، حب المستضعفين وحب المتمكنين.

أما البعد الفكري، فدونك مؤلفاته العميقة الدقيقة، ومحاضراته العلمية الرصينة، جمع بين الأدب والفقه، بين الموعظة والفكرة، بين الصرامة المنهجية، والصور البلاغية، بين الأسلوب الأدبي الرفيع، والخطاب الدعوي البليغ.

بعد كتاباته في نقد الحركة الإسلامية وليس نقضها، انتقل العلامة فريد الزمان الأنصاري إلى تقديم مشروع إصلاحي، يراه   أصيلا، وبديلا للمشاريع الإصلاحية المعاصرة، تحت شعار:” من القرآن إلى العمران”، وجعل أداته المنهجية هي “مجالس القرآن”، كل ذلك فيتساوق مع مشاريعه الأخرى وهي: “مشروع الرقائق الجمالية”،و “مشروع  الفطرية”.

7 – خاتمة

إنَّ الخطابَ – مقروء أو مسموعا- عنْد أستَاذنا الجَليل أبي زيد المقْرئ الإدريسي فعلٌ احستابي، ومنهجٌ استِلهَامي، مؤطر برقَابة ذاتيّة صارِمة، نابعة من روح البَاحث عن الحقيقة، المسكُون بفِكرة الإصْلاح، والمهْموم بالمشْكلات الحَضَارية الكُبرى للأمة الإسْلامية، والمسْتَوعب لقَضَايا الإنسَانية ومآزقِها، ثم إنه يتَوسَّل في ذلك كلِّه بحَشدٍ كثيفٍ من المراجِع والمصَادر والمعلُومات والحقَائق والأمثَلة التي تفَاجئ المستَمع والقَارئ، فيتسَاءل: متى قرأ أبو زيد؟ ومتى دون؟ وكيف رتَّب؟ وهو الذي لا ينهي إلقاء مُحاضرة أو المشَاركة في مؤتمر، حتى يشْرع في أخرى وآخر، لنتَأكد أن المقرئ الإدريسي جمَع الله له بين نعمَتي الوهْب والكَسْب.

يقول الأستاذ جمَال بنسليمان :” إن المقرئ لم يأتِ سهوًا، إنه جاء في الزّمان والمكان المناسبيْن، في موعده مع التَّاريخ المغربي والعربي والإسلامي والإنسَاني، ليشعل كهرباء وعينا ويشحذ عقولنا حتى تخرج انحساراتنا وانكساراتنا، ونمضي في الطريق الصحيح: طريق العلم والمعْرفة والحضَارة وتحمل المسؤولية وإنتاج القيم، التي تهدم منطق التهافت المادي وخدمة الإسْلام الإنساني الكَوْني، إنه -أولا وأخيرا- علامة لافتة مضيئة في مغربنا الجَميل الذّي يستحق أن يقترن به، ويتَناغم معه، ويخلص له الود، ويبْلغ معه أسمَى المراتب أنقَاها وأبهَاها، تحت قبة شخْصيته الواضحة، التي تَتَماهى مع الجَميع، في خطَابها وحدِيثها وتعابيرها، وثباتها ومبادِئها وصدقها الذي يتَنفس بينَنَا عبِيرًا نقيًّا صَافيًا” .

رحم الله تعالى علماءنا وأئمتنا وأساتذتنا ووالدينا ولكل من له الحق علينا،

وحفظ الله أستاذنا أبا زيد المقرئ الإدريسي،وبارك الله في عمره وعلمه وعمله، وجعلنا وإياه على سَنَن المصلحين.

والحمْد لله رَبّ العَالمَين

عشيَّة الأحد 21جمادى الآخرة 1441ه/16فبراير2020م

آسَفِي حَاضِرة المحيط

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى