د مصطفى قرطاح يكتب: في سبيل إنجاح خطة تسديد التبليغ

يتفاعل هذا المقال مع خطة تأسيس التبليغ في مقصدها الكلي، ومع جزء من جانبها التنزيلي وهو الخطب الموحدة، ويتأسس على أصل أصيل يجمع أفراد الأمة مع أئمتهم، وهو: واجبُ معاونتهم على كل بِرٍّ؛ قال تعالى: ﴿‌وَتَعَاوَنُوا ‌عَلَى ‌الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]، والنُّصحِ لهم بما يحقق كل مصلحة ويدفع كل مفسدة. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: “الدين ‌النصيحة؛ ثلاثَ مِرَارٍ، قالوا: يا رسول الله: لِمَنْ؟ قال: لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم”[1].

إن ” خطة تسديد التبليغ” التي أعدها المجلس العلمي الأعلى، ساعيا من خلالها إلى تحقيق مقصدِ الدين في حياة المسلمين؛ المتمثلِ في الوصول إلى الحياة الطيبة، يستدعي نجاحها المزيد من الاجتهاد في تحقيق شروطه. وللوقوف على هذه الشروط يجب أن ننظر في مقاصد الخطة، وفي الوسائل والوظائف التي أعدت لتحقيقها.

إن مقاصد الخطة تتلخص في عنوانها الذي اختير لها، وهو “تسديد التبليغ”. لذا كان من المناسب أن نُذَكِّرَ أوَّلا بمعاني هذا المركب الإضافي، ثم ننظر في سبل تحقيقه.

  1. في معنى تسديد التبليغ وشروطه:

فالتبليغ مصدر فعل ” بَلَّغَ” على وزن ” فعَّل”؛ وهي تستعمل للتكثير في الفعل أو في المفعول، وأصل “بَلَّغَ” من” بَلَغَ”، ف”لباء واللام والغين أصل واحد وهو الوصول إلى الشيء. تقول: بَلَغْتُ المكان، إذا وصلتُ إليه. وَلِي في هذا بلاغٌ أي كفاية”[2]. و”البُلُوغ والبَلَاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، مكانا كان أو زمانا، أو أمرا من الأمور المقدّرة.. والبَلَاغ: الكفاية، وقوله عز وجل: “وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ” [المائدة: 67]، أي: إن لم تبلّغ هذا أو شيئا مما حُمِّلْتَ تَكُنْ في حكمِ من لم يُبَلِّغْ شيئا من رسالته”[3]، و”الإبلاغ و التبليغ: الإيصال”[4]، ومنه البلاغة “التي يمدح بها فصيح اللسان، لأنه يَبْلُغُ بها ما يريده، وتقال على وجهين:

– أحدهما: أن يكون بذاته‌‌ بليغا، وذلك بأن يجمع ثلاثة أوصاف: صَوْباً في موضوع لغته، وطِبْقاً للمعنى المقصود به، وصدقا في نفسه ، ومتى اخْتَرَمَ وصفٌ من ذلك كان ناقصا في البلاغة،

والثاني: أن يكون بليغا باعتبار القائل والمقول له، وهو أن يقصدَ القائل أمراً فيُورِدَهُ على وجهٍ حقيقٍ أن يقبله المقول له، ومنه قوله تعالى: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً [النساء/ 63]”[5].

أما التسديد “فمعناه التوفيق للسَّداد، وهو الصواب والقصد من القول والعمل…وأمر (سديد) و (أَسَدُّ) أي قاصد، و(اسْتَدَّ) الشَّيْءُ اسْتَقَامَ. وَ(السَّدَدُ) الِاسْتِقَامَةُ وَالصَّوَابُ”[6].

نخلص مما تقدم إلى أن تسديد التلبيغ معناه تقصيد عملية إيصال القول إلى الناس حتى تبلغ منتهاها وأقصى مرادها، فتتحقق بها الكفاية، و أهم ركنين فيها هما الخطاب والمتلقي.

  • فالخطاب البليغ يجب أن يكون صدقا في نفسه، بأن يكون حقا. ولا يكون كذلك إلا إذا كان مُسْتَمدّاً من الحق سبحانه، أي من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وموجها إلى حقٍّ ليقرِّرَه ويُثَبِّتَهُ، أو إلى باطل لِيَدْحَضَهُ؛ لأن ” مقصد الشريعة من التشريع تغيير وتقرير: تغيير للفساد وتقرير للصلاح”[7]؛ وذلك في الموقع المناسب على الوجه المناسب، وبالقدر المناسب في الوقت المناسب: ﴿بَلْ نَقْذِفُ ‌بِالْحَقِّ ‌عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: 18]. وأَيُّ إِخْلاَلٍ بهذه الشروط يُفْقِدُ القولَ صفةَ البلاغِ.
  • ومن بلاغته أن يتلقى المتلقي الخطاب بالقبولِ، والعزمِ على الامتثالِ لما عَقَلَهُ وانْشَرحَ له صدره ورأى فيه خيرا له: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ‌مَاذَا ‌أَنْزَلَ ‌رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ [النحل: 30]، فإن أعرض عنه لنقصٍ في الإفهام، أو لِغِلَظٍ في القولِ، أو لِبُعْدٍ عن المصلحةِ والاهتمامِ… لم يكن الخطاب بليغا؛ لأنه لم يَبْلُغْ مُرادَه.

            وعن هذين الركنين وشروط تحققهما تتفرع مهام التبليغ إعدادا وإلقاءً، ويتسدد بالإحسان فيهما.

  1. شروط تسديد التبليغ

أما الركن الأول، وهو الخطاب فيتسدد بالجمع بين الكلي والجزئي.

فالكلي من شأنه أن يكون عاما، كالدعوة إلى الإيمان والتقوى والقيام بالعمل الصالح والحث على البر والخير والمعروف، والنهي عن الكفر والفحشاء والمنكر والبغي والفسوق والعصيان.

وأما الجزئي فمن شأنه أن يكون خاصا خصوصية المتلقي وما ينفعه. ويشهد لهذا من نهج النبي صلى الله عليه وسلم قوله لوفد عبد القيس لما أتوه فقالوا: “يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل، نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة. وسألوه عن الأشربة: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم: بالإيمان بالله وحده، قال: (أتدرون ما الإيمان بالله وحده). قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس). ونهاهم عن أربع: عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت. وربما قال: (المقير. وقال: (احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم)”[8]، قال ابن بطال: “وإنما نهاهم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، لأنه سألوه عن الأشربة، وكانت كثيرة عندهم، فأعلمهم بما يحتاجون إلى علمه[9].

فإعلام الناس بما يحتاجون إلى علمه هو الذي يفرض على الخطاب الدعوي أن يتناول ما يخصهم وما ينفعهم، وذلك لن يقوم به إلا من كان قريبا منهم عارفا بأحوالهم.

وأما الركن الثاني وهو المتلقي، فإنه لكي يتلقى الخطاب بالقبول ويعزم على الامتثال له، وجب أن يَفْهَمَهُ فهما جيدا ويَنْفَعِلَ معه وجدانيا: رغبة أو رهبة، رجاء أو خوفا، نفورا أو إقبالا، ثم يستوعب السبل الكفيلة بحسن تطبيقه. وفي عمل الصحابة رضي الله عنهم شواهد على هذا. فمن ذلك أن عَدِيَّ بْنَ حاتمٍ رضي الله عنه لَمَّا نزل قول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ‌الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ ‌الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187]، “أخذ عِقَالاً أبيضَ وعقالا أسود، حتى كان بعض الليل نظر، فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: (إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين). ثم قال: (لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار)”[10]. ومنه أيضا ما وقع لعمار بن ياسر رضي الله عنه حين أراد التيمم، حيث قال: « بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فَتَمَرَّغْتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه”[11].

فمن المثالين معا تتأكد الحاجة إلى البلاغ السديد، وهو ما لا يتم بالاكتفاء بقراءة النص، بل يستدعي توضيحه بكل السبل الممكنة. وفي ضوء ما تقدم تتضح بعض المحاذير التي يجب اعتبارها عند توحيد الخطب.

  1. الخطبة الموحدة: محاذير يجب أن تعتبر

في مساجدنا المنتشرة عبر ربوع الوطن يوجد صنفان من الخطباء والوعاظ (ليس على سبيل الحصر):

أحدهما: صنف زاده العلمي قليل، سواء في اللغة العربية أو في علوم الشريعة، وهم منتشرون في البوادي والمدن على السواء. فهؤلاء عندما توضع بين أيديهم خطبة موحدة فإنهم يجتهدون في قراءتها، لكن، أنى لهم أن يُبَلِّغُوا للناس معناها ومرادَها وهم لم يَبْلُغُوهُ.

والصنف الثاني: خطباء يجيدون اللغة العربية، فيقرؤون الخطبة باللغة التي كتبت بها بوجه سليم، لكن دون مراعاة للمتلقين الذين هم ما بين: متعلمين بلغات أجنبية، أو تِقْنِيِّينَ لا شأن لهم باللغات، أو سواهم من ذوي المستوى التعليمي المتواضع. وفي النهاية، فإن قِلَّةً قليلة هي التي قد تستوعب الخطبة.

وبمجموع هاتين الفئتين يكون جزء كبير من رواد الجمعة قد حُرِمُوا من الاستفادة من الخطب والمواعظ. وعليه، فإن هذين الصنفين من الخطباء والوعاظ ينبغي اعتبارهما عائقين بنيويين في وجه خطة تسديد التبليغ، ويجب العمل على تجاوزهما بالسبل الكفيلة بذلك، ومنها:

  • الدعوة إلى اعتماد منهج الخطب الموحدة لا موضوعها،
  • الاقتصار في الخطب الموحدة على بعض المناسبات التي تقتضيها،
  • عند الاقتضاء، يستحسن الاكتفاء بتوحيد الخطبة الأولى، وترك الحرية للخطيب في تناول ما يناسب واقعه في الخطبة الثانية.
  • صياغة الخطب مشكولة النص تفاديا للحن عند قراءتها.
  • فسح المجال أمام الخطباء للتصرف في الخطبة من حيث أسلوبها وقسيمها الجزئي الذي أشرت إليه أعلاه،
  • التنصيص صراحة على حق الخطيب في التصرف في الخطبة بما يحقق مقاصدها ويبلغ مرادها.

ختاما: إن البلاغ مسؤولية عظيمة جدا، سيسأل عنها المُبَلِّغُ والمُبَلَّغُ إليه، فقد قال الحق سبحانه: ﴿‌فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: 6]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء نوح وأمته، فيقول الله تعالى: ‌هل ‌بَلَّغْتُ؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بَلَّغَكُمْ؟ فيقولون: لا ما جاءنا من نبي…الحديث”[12]، ولهذا انتزع النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم شهادة القيام بمسؤولية التبليغ على وجهها الأتم، وكان يكثر أن يقول في خطبه:”ألا ‌هل ‌بلغت؟ فإذا قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد”.

——-

[1]  ـ سنن الترمذي، ‌‌ أبواب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في النصيحة، وقال: حديث حسن صحيح.

[2]  ـ ابن فارس، مقاييس اللغة:1/ 301 ـ 302

[3]  ـ الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن» (ص144).

[4]  ـ الجوهري في مختار الصحاح: ص39.

[5]  ـ المفردات في غريب القرآن: ص145.

[6]  ـ مختار الصحاح: ص144.

[7]   ـ القاعدة الرابعة والعشرون ضمن معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية 3/441.

[8]  ـ صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان.

[9]  ـ «شرح صحيح البخاري» ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك(ت 449 هـ)، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد – السعودية، الرياض، الطبعة الثانية، 1423 هـ – 2003 م ج1ص 118.

[10]  صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}، وقد ألفت بين حديثي الباب.

[11]  ـ صحيح البخاري،  كتاب التيمم، باب التيمم ضربة.

[12]  ـ «صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم}.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى