في بعض ضوابط النقاش المجتمعي في قضية الأسرة – مليكة شهيببي

يشهد المجتمع المغربي في الآونة الأخيرة سجالا مجتمعيا في سياق المطالبة بإصلاح مدونة الأسرة، وأظنه نقاشا صحيا وسليما يساهم في إثراء وإنضاج وتسليط الضوء على بعض القضايا والمواد التي يُظَنّ أنها تساهم في عدم إنصاف المرأة، كونُها لا تلبّي احتياجات المتغيرات المجتمعية المتسارعة، والتي مسّت بنية الأسرة من الداخل وغيرت بعض معالمها وأحيانا قلبت الأدوار بين أفراد الأسرة الواحدة.

لن أتحدث عن قضية الإرث وما يثيره من نقاش بين مؤيد ومعارض حول ضرورة المساواة بين الذكر والأنثى في نِسب توزيعه، بكل بساطة، لأني لست أهلا لذلك، ولا أمتلك آليات الاجتهاد في نص قطعي ولا مقاربة مدى التصرف فيه وفقا لمقاصد الشرع والسياقات المختلفة للنص؛ ولن أتطرق لقضية تعدد الزوجات ولا لزواج القاصرات ولا لإشكالية إثبات النسب ولا لغيرها من القضايا التي تعتبر محل خلاف واختلاف بين تيارات اختلفت مشاربهم ومرجعياتهم حد التناقض.

غير أني أبيح لنفسي التجرؤ وأقول:

أولا: إن الاختلاف والخلاف الحاصل اليوم في نقاش هذه القضايا، راجع بالدرجة الأولى إلى اختلاف في المنطلقات والمرجعيات التي ينطلق منها كل رأي والتي تؤسس لكل فكر، أكان منطلقا من مرجعية إسلامية تقليدية أو متجددة أو من مرجعية حداثية معاصرة؛ واختلاف المنطلقات هذا، أكيد لن يقود إلا إلى اختلاف في مخرجات النقاش، إلا إذا التزم أصحابه وتجردوا من ذواتهم وأهوائهم ونشدوا الحق والحقيقة والصواب والمصلحة العليا للأسرة دون الرغبة في الانتصار لذات المرأة على الرجل ولا لذات الرجل على المرأة. لأنها بكل بساطة مدونة للأسرة بكل مكوناتها ليس مدونة للرجل وحده ولا للمرأة وحدها.

ثانيا: إن لكل إنسان أعطاه الله عقلا، الحقّ في قدر من الفهم والإدراك، ولا أحد له الحق في أن يحجر عليه الفهم والتعاطي مع النص القرآني، غير أننا يجب أن نُقرّ في هذا الصدد، أن لكلّ مجالٍ أهلُه، وأن لكل علمٍ تخصُّصُه، وعلى هذا الأساس نقول إن لمجال القرآن أهله وأصحابه وعلماؤه، لهم من العلم ومن آليات البحث والاجتهاد في النص القرآني ما يؤهلهم لقراءة سياقات النص وفهم مآلاته، و لهم من مقومات الاجتهاد ما يخول لهم ذلك، فلهم إذن الكلمة الأولى والأخيرة في هذا المجال مثل ما لِكلّ أهل تخصص كلمتهم الأخيرة في مجالهم.

ثالثا: إن أُعطيت الصلاحية لأهل العلم والتخصص للبث في قضايا متعلقة بالشرع الاسلامي، فعلى أهل هذا العلم أن يفتحوا باب الاجتهاد في هذه القضايا برؤية تجديدية مراعية لمقاصد الشرع الكبرى في تحقيق الأمن الأسري ومستحضرة للمتغيرات المجتمعية التي قلبت حياة الأسرة المسلمة، ومؤمنة بأن الاجتهاد هو السبيل الوحيد لحل مشاكل الحياة المتجددة والمستحدثة.

رابعا: على أهل العلم والتخصص، قبل قول كلمتهم الأخيرة في قضية من القضايا موضوع السجال المجتمعي، أن يوسعوا النقاش مع تخصصات أخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد والعلوم الطبية وعلوم أخرى حسب ما تقتضيه من معلومات حول القضية المطروحة للنقاش والدراسة وحسب القضية موضوع الاجتهاد، حتى تتوضح للجميع الصورة وتكتمل الأدلة لصياغة موقف شرعي يراعي المقاصد ويتصف بالواقعية والموضوعية ويحقق المبتغى.

خامسا: على كل الفاعلين والمهتمين والمنادين بإصلاح مدونة الأسرة أن يتفقوا  على أن النقاش يجب أن يكون من داخل المنظومة الإسلامية وليس من خارجها كوننا مدونة موجهة للمغاربة، ودين الدولة  المحدد دستوريا هو الإسلام، إذن فالمرجعية  العليا التي يجب أن تُحكِمَ النقاشَ المجتمعي هي المرجعية الإسلامية؛ وهي التي يجب أن يحتكم إليها الجميع حين تتعارض بعض الأحكام وبعض مخرجات النقاش مع مواد وبنود المواثيق الدولية، وأن أي اجتهاد غير مؤطر بهذا الاتفاق يُبقي النقاش خارج السياق وبدون جدوى.

وأخيرا لابد أن أشير إلى مسألة مهمة جدا، وهي أن قضية الأسرة  تعتبر من القضايا التي حظيت باهتمام القرآن الكريم اهتماما بالغا، حيث أن ما يفوق 146 آية في القرآن الكريم تتحدث عن الأسرة ، إضافة إلى غنى السنة النبوية بأحاديث كثيرة في الموضوع، زد على ذلك، فإن ما يقارب ربع الفقه الإسلامي يتحدث عن فقه الأسرة؛ وإن دلّ هذا على شيء، فإنما يدلّ على قيمة هذه الوَحَدة الاجتماعية الأساسية التي يتكون منها المجتمع، صلاحها، استقرارها، أمنها، هو أقصى مقاصد التشريع الإسلامي في هذا المجال، وأي نقاش وأي فكر  وأي اجتهاد  لا يحقق هذه المقاصد يجب أن يعاد فيه النظر .

 

 

 

 

 

 

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى