من مقاصد الصيام 1| تهذيب نفس المسلم وتربيتها

يكتسي شهر رمضان أبعادا تربوية عميقة تستهدف تهذيب نفس  المسلم من خلال الصيام ، حيث يتذكر الإنسان الضعيف والمحتاج والفقير، فنهذِّب النفس ونروّض الذات على أن تكون في خدمة عباد الله.

ولا مبالغة في القول إن الإسلام هو دين تربية الملكات والفضائل والكمالات، فهو يعتبر المسلم تلميذا ملازما في مدرسة الحياة. ومن هنا فإن امتحانات الإسلام متجلية في الشعائر المفروضة، وما فيها من تكاليف دقيقة، تنمي ملكات الخير والرحمة في شخصية المسلم.

إن شهر رمضان فرصة لتثبيت الكثير منها في النفوس وتجعل منها عادات حميدة يسير عليها الشخص مدى حياته، ذلك أن الصيام يسهُم في تهذيب النفس من خلال قضية الترك، وزيادة منسوب التقوى فلا شك أن هناك معنى رائعا يحصل للفرد أو الأسرة أو المجتمع عموما.

فمن مقاصد الصيام التربية على التقوى، من خلال تهذيب النفس والأخلاق، وحسن التعامل مع الوالدين ومع الإخوة والأخوات، والتعامل مع الآخرين، والإحسان للمحتاجين والفُقراء والمساكين. ومن أهم أثارها:

قوة المراقبة: ذلك أن مراقبة الضمير الحي تمنع المؤمن من الوقوع في المعصية.

السيطرة على الجانب المادي وتغليب الجانب الروحي: من آثار تقوى الله تقوية جانب الروح في المسلم ليسيطر على الجانب المادي فيه، حيث إن الجانب المادي إذا تغلب فإن الإنسان يصير كالحيوانات، وما الإنسان إلا بالروح، فإذا قوي فإنه يصبح سامي الرغبات والصوم هو الذي يساعد على ذلك؛ لأنه يضعف الشهوات المادية.

اكتساب الفضائل ومحاربة الرذائل: حيث إن الصيام بمثابة مدرسة يقضي فيها الصائم وقتا من الزمن غير قليل يطبق فيه منهجه عمليا. وبما أن المسلم عاش مع الصيام فكرا وعملا، وهذا يكسبه حب الفضائل والحرص على اكتسابها والعمل بها.

تطهير النفس من المعاصي والذنوب: ذلك أن تزكية النفوس وتطهيرها مسؤولية مباشرة على كل مسلم، ومن أفضل الوسائل التي تساعد المسلم على التقوى، أن الصوم حصانة للجسد بالتهذيب والإصلاح والتوجيه والتقويم.

تنقية الروح من الشوائب: للصيام أثر واضح في تنقية الروح من الشوائب، وذلك أن امتلاء المعدة بالطعام وانبعاث النفس مع الشهوة يوقف الروح، ويغمس أنوارها ويحجب أشواقها ويجعلها معتمة، ولا تشرق فيها المعاني السامية ولا تموج بها الأشواق الرفيعة.

ومن الآثار التربوية الأخرى للصيام:

1 – طهارة الجوارح: من أعمال السوء، وهذا الأثر امتداد لنقاء روحه من الشوائب والمكدرات الحسية والمعنوية التي تصيبه في حياته.

2 – تقوية الإرادة وشحذ الهمة: الصوم عبادة روحية تهذب الروح والوجدان، هذه العبادة يتعرض فيها البدن لألم الجوع والحرمان من الملذات البدنية. ولا شك أن الصيام وهو بهذه الحالة سيترك آثارًا تربوية على المسلم، ومنها تقوية إرادته وشحذ همته إلى معالي الأمور، وتحفيزه إلى السبق في مواسم الخير.

3 – التحكم في النفس وهواها: إن المسلم إذا تمكن من تهذيب نفسه يسر له ذلك أن يتحكم في مطالبها فلا يعطيها إلا ما كان نافعا غير ضار، لأن طبيعة النفس البشرية ميّالة إلى الشر والفتنة.

4 – التغلب على السلبيات: لعل من أبرز الآثار التربوية للصوم هو التغلب على السلبيات السلوكية وغيرها، سواء مع نفسه أو لدى الآخرين، ذلك أن تقوية الإرادة في النفوس ليست بالأمر الهين، فالصوم يدرب الإنسان على القضاء على السلبيات السلوكية في حياته، بما يمده من طاقة إيجابية فعّالة في تحويل الأمور السلبية إلى أمور إيجابية.

5 – الارتقاء بالمسلم إلى مكارم الأخلاق: الصوم يدفع المسلم إلى مكارم الأخلاق، فهو ينظم حياته ويربيها ويقويها ويصل بها في التربية إلى أعلى مستوى، وهذا الأثر التربوي من أدق الآثار التربوية وأهمها في حياة المسلم الخاصة، ذلك أن الصائم هو الذي يختار لنفسه ما يقدر عليه، كما أن الصيام عبادة سرية فليس يعلم حقيقة الصائم إلا الله، فهو عبادة بين العبد وربه، تعتمد على المراقبة والخشية من الله.

6 – مجاهدة النفس وإجبارها على سلوك منهج الله: إن للصيام دور محوري في مجاهدة النفس وإجبارها على الالتزام بمنهج الله.

وفي هذا السياق، قالت الأستاذة خديجة رابعة مكلفة بملف الأسرة في المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح بجهة الوسط، إنه من المهم الحديث عن فلسفة الصيام وروحه، حتى نرتقي بصيامنا إلى المراتب العليا، كما يتم الحديث عن فقهه وما يتعلق بأركانه ونواقضه.

واستحضرت رابعة في حديث لموقع الإصلاح، ما جاء في كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله ” الصيام على ثلاث مراتب، المرتبة الأولى سماها صوم العموم وعرفها بأنها:” كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة”، والمرتبة الثانية هي صوم الخصوص وهو ” كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل و سائر الجوارح عن الآثام”، و صوم خصوص الخصوص وهو” صوم القلب عن الصفات الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل”، مشيرة إلى أن الله عز وجل يريد منا صياما خاصا عنوانه الأكبر التقوى، قال الله تعالى:” يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”.

كما استحضرت المتحدثة تعريف بديع لسيد قطب في كتابه (في ظلال القرآن)، يكشف عن التغيرات الجذرية التي تدخلها على حياة الإنسان، فتجعله يسير في طريق الله، يقطع مسافاتها، ويرتقي منازلها بأقل خدوش ممكنة من أشواك الطريق، يقول رحمه الله: “التقوى حساسية في الضمير، و شفافية في الشعور وخشية مستمرة وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق.. طريق الحياة الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، أشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا، وعشرات غيرها من الأشواك.”

وأضافت أن رمضان هو:

شهر التطهر من الغفلة أولا، ثم من الذنوب والمعاصي عن طريق التوبة والاستغفار ف “من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه و شرابه”، ثم من الأحقاد و الضغائن عن طريق الصفح و العفو عن الناس.

وهو شهر الارتقاء الروحي بامتياز عن طريق العبادات العديدة التي تميزه من ذكر  دعاء وقيام ليل وتهجد واستغفار بالأسحار وصلاة الجماعة..

وهو شهر الالتزام الاجتماعي، عن طريق التزام الهدوء والسلم تجاه الآخر، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:” إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ و لا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم” متفق عليه.

وهو شهر يعلم المسلم الالتزام تجاه مجتمعه، والتخلي عن أنانيته وفردانيته، يرفع من إحساسه بالفقير والمحتاج، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:” من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيئا.” رواه الترمذي.

وهو شهر يبني إرادة الإنسان ويقويها، فلا شك أن الذي استطاع التحكم الطوعي الواعي في شهواته البيولوجية، سيكون أقدر على التحكم في ذاته في مستقبل الأيام،  سيكسر طوق العادات المتحكمة ويتحرر من أسرها.

وهو شهر الإخلاص، يعلمنا رمضان ضرورة تحرير النية من كل ما سوى الله تعالى، و تحببنا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الصيام و القيام إيمانا و احتسابا، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” رواه البخاري، وقال أيضا : “مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” متفق عليه . فالرغبة في مغفرة الذنوب الماضية تجعل المؤمن يحرص على تجديد نيته و تحريرها من كل شرك، و يعزم على احتسابها قربة لله تعالى وحده.

وهكذا يتضح أن الصيام مدرسة إيمانية أيضا، تعمل على تزكية النفس وتزويدها بطاقة إيجابية وروحانية كبيرة. فالصيام يزرع في النفس البشرية الخشية والمراقبة، واستقامة السلوك، وإصلاح النفوس وتجديد العودة والإقبال على الله.

وأنه مدرسة خلقية كبرى متعددة الجوانب يتدرب فيها المؤمن سنويا على كثير من الخصال الحميدة، منها: جهاد النفس ومقاومة الأهواء، وخلق الصبر على ما قد يُحْرَم منه، وتدريبه على الأمانة، ومراقبة الله في ظاهره وباطنه.

ومنها: أنه يقوى الإرادة ويشحذ العزيمة، ويعود على النظام والانضباط.

ومنها: أنه ينمي في المسلم عاطفة الرحمة والأخوة، والشعور برابطة التضامن والتعاون التي تربط بين المسلمين فيما بينهم، فيدفعه إحساسه بالجوع والعطش إلى أن يمد يد العون والمساعدة للآخرين الذين كانوا يقاسون مرارة الفقر والحرمان طيلة أيام السنة.

ومنها: أنه يذكر الصائم بنعم الله عليه إذ منحه القدرة على هذه العبادة التي ينال بها جزيل الثواب في وقت حُرِمَ فيه آخرون منها.

ومنها: أن الصوم يجسد وحدة المسلمين في العبادة والسير على منهج موحد في هذه العبادة كغيرها، في هذا الشهر فسلوكهم فيه متشابه سواء في ذلك القاصي والداني.

ولا شك أن الغاية الأولى من تشريع هذه الشعيرة هي تربية نفس المؤمن على الاستقامة في شهر رمضان، وتدريبه على هذه الخصلة الكريمة بعد رمضان، وتمرينه عليها في حياته كلها، وأحواله جميعها، حتى يكون في حياته الخاصة وفي المجتمع الإنساني عضوا نافعا.

فالحكمة المتوخاة من صيام رمضان لا تعدو أن تكون تزكية نفس المؤمن وتطهيرها بالتقوى، وقد بالغ ابن حزم في تقرير هذه الحكمة حتى أفرط فقال : “يبطل الصيام كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلا أو قولا”، بالإضافة إلى ترويض المؤمن على خصلة الشكر فإن في الصوم شكرا للمنعم الأعظم على نعمة الصحة، وشكرا وتذكارا لنعمة نزول القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

يقول محمد قطب حين يتحدث عن الصيام في كتابه “في النفس والمجتمع”: إن الصيام في حقيقته عملية تجنيد، وكما تحتاج الأمم كلها لتجنيد أبنائها وتدريبهم على احتمال الجهد والمشقة توقعاً للاحتياج إليهم يوم الصراع، فكذلك الإسلام فرض هذا التجنيد ولكن على نطاق أوسع يشمل الروح والجسد في وقتٍ واحد، ويشمل الصغار والكبار والرجال والنساء، لأنه تدريب لهم على الصراع الأكبر، الصراع الدائم، صراع الحياة التي يمارسها الجميع وتقع تبعاتها على الجميع”.

موقع الإصلاح

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى