فاتتني صلاة، أو الصلاة بعرض تربوي آخر – الحبيب عكي
كتاب من الحجم المتوسط والطبع الجديد الفاخر، 231 صفحة، لصاحبه “إسلام جمال”، طالما رأيته معروضا على واجهات المكتبات وزوايا جديدها وإشهارها، وعند بائعي الكتب المستعملة في الأسواق وعلى قارعة الطرقات بزهيد الأثمان، لكنه، لم يستهويني بالاقتناء ولا بالقراءة، لأنني أصلا كنت أقرأ عنوانه بالخطأ “فاتنتي صلاة” وساء به ظني على أنه مجرد كتاب من كتب الموضة المعاصرة وموجة الاسترزاق في التنمية الذاتية التي تدعي تغيير الذوات مهما كانت محنطة وتستعصي على التغير، ومجملها فعلا كذلك لا يتغير حتى أثناء حماس الدورات. هكذا وبكل بساطة حكمت على الكتاب المسكين من غلافه وعنوانه دون اطلاع ولا قراءة فبالأحرى التمحيص والدراسة.
إلى يوم نزلت فيه ضيفا عند أحد الأصدقاء الأقرباء الأصهار في العاصمة، وأشكره على حسن الضيافة بالمناسبة، وبحكم استئناف عمله الحضوري وحكم إجازتي الصيفية وإجازة أهله وغيابهم، وجدتني وحيدا في البيت وعلى امتداد كل الصباح وقسط من المساء، وجها لوجه مع كتاب الله عز وجل على أريكته وحاملته الأنيقة، وهذا الكتاب الموضوع على الطاولة، والتلفاز الطويل العريض على جداره. قررت عدم الخروج لتجزئة الوقت في الصعود والنزول عبر الشارع دون غرض ما، قررت عدم تجزئة الوقت أيضا في النوم خاصة بعد الاستيقاظ، ولا في تصفح الهاتف النقال وما يعرضه علينا من ألعاب وتطبيقات وروتين الصفحات بالمجان، وصدق من قال:” إذا رأيت شيئا بالمجان فاعلم أنك أنت المشترى وبالمجان”.
ارتشفت من كتاب الله ما تيسر من رشفات ولا أروع، ولا أدري كيف امتدت يدي بعدها إلى أخذ الكتاب من مكانه، تصفحت فهرسة فصوله الثلاثة، وإذا بعناوينها مختارة بعناية، وكل عنوان يحمل إشكالا تربويا وسلوكيا واقعيا وفلسفيا عميقا حول الصلاة، ويثير في القارئ رغبة البحث عن إجابته واستثماره في تحسين صلاته وتجويدها مهما كان مستوى تعامله معها. كتاب مناسب لليافعين والشباب، التهمته بسرعة فائقة حبا وشغفا وبجاذبية ممتدة ومسترسلة مع بعض الاستراحة للتأمل والتركيز والتساؤل، سجلت بعض النقاط الهامة والأفكار الأساسية والتي من عمقها قررت مقاسمتها معكم عبر هذا المقال، الذي أعلن منذ البداية أنه لا يغني عن قراءة الكتاب الشيق وهو يستحق.
يبدأ الكتاب طرحه بإشكال واقعي ملموس ومتناقض في الوقت الذي لا ينبغي أن يكون فيه كذلك، الإشكال هو أنه بقدر ما هنالك فئة من الناس – من الشيوخ خاصة – يحافظون على صلاتهم في وقتها وضوئها.. مسجدها وخشوعها..، ويظهر ذلك على سمتهم ورضاهم ويسعدون بذلك وعليه تنتظم حياتهم، بقدر ما هنالك فئة أخرى – من الشباب خاصة – لا تكاد تنتظم لهم صلاة بالمواصفات والآثار السابقة، إن كانوا أصلا يصلون، تضطرب حياتهم جراء ذلك وتتوتر، لكنهم لا يبالون أو يجتهدون في بحثهم عن الحل ولكنهم إليه لا يهتدون. فيخبرهم الكاتب أن الإنسان قبل كل شيء صنع أفكاره وأسيرها، وإيمانه واعتقاده قبل سلوكه وتصرفاته، وأن أخطر عقبة في حياة المرء هو ذلك ال”يوم ما” الذي سيأتي ولا يأتي وسأتغير فيه ولا أتغير. وأن ذلك الوقت الذي يقدم فيه المرء على صلاته في وقتها سيمضي بالربح والعمران، ونفس الوقت الذي ينشغل فيه المرء عنها أيضا سيمضي ولكن بالندم والخسران. فأي من الأوقات سيكسب المرء ويسعده، وأيهما سيخسره ويؤلمه؟
إن المقصرين في هذا الركن الأعظم في الإسلام، وهو الذي تنبني عليه كل حياتهم وتنبني عليه أيضا آخرتهم، طبعا هم مشغولون بشكل أو بآخر، وفي مستوى معين أو آخر، وتلك هي قمة المغالطة وهوى النفس واضطراب الفكر والسلوك، أن يكون الإنسان مشغولا عما يسعده بما لا يسعده؟، هل هناك سعادة خارج الصلاة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :”جعلت قرة عيني في الصلاة” ويقول: “أرحنا بها يا بلال”. وهل هناك سعادة أكثر في صلاة الأداء أم في صلاة القضاء والله عز وجل يقول: ” إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا”. فما بال بعض المقصرين يعتقدون أن المحافظة على الصلاة هبة من الله يمنحها لمن يشاء ولا داعي لمن حرم منها أن يسعى لاكتسابها أو حتى يحاول، مع أن الإنسان هو الإنسان من جسد وروح، والله تعالى يقول:” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”؟
إن الصلاة شعيرة دافئة إيمانية تعبدية لأداء حق الله ودوام التواصل معه طلبا لمغفرته وعونه ومعيته ورضاه، ولا يستقيم طقسها وعطاؤها، وحفظها واطمئنانها..، لكل من ترك ركنا من أركانها أو نظما من مناظيمها أو آلية من آليات دورانها وإثمارها: معرفة الله المعبود حق المعرفة، والتعلق به وطاعته حق الطاعة، وإسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وتذكر ما يتلى في الصلاة، وأدعية الركوع والسجود وفضلها، والمناجاة والخشوع. هل لك حاجة عند الله تقضيها، الذكر والدعاء والدعاء مخ العبادة، الأثار التربوية والاجتماعية على المصلي كما يقول الرافعي:” إن الصلاة تبدأ عند نهاية الصلاة”.
وقد أحسن الكاتب في نسج كتابه وهو يبسط بيسر واقتضاب وتركيز وتشويق، كل مكون من مكونات الصلاة بقصة معبرة أو قولة مأثورة أو قاعدة تدريبية معاصرة، فوق قسط من الآيات والأحاديث التي تساهم ولاشك في إقناع القارئ وتثبته على التزامه اتجاه فاتنته الصلاة إن كان من الملتزمين الموفقين وحق لهم أن يكافؤوا أنفسهم ويوطنوها على جهد المحافظة ونيل الثواب والرضا والطمأنينة والسكينة..، كما يقنع الكاتب المقصر بضرورة تدارك تقصيره إن كان من المقصرين الراغبين في التوبة عن تقصيرهم وترك أعذارهم وترويض أنفسهم وضبطها، بمخالفة هواها الآمر بالسوء، حتى لا يكون صاحبها من الداعين وصلهم ب”ليلى” و “ليلى” لا تقر لهم بذلك، بل ربما ردت على أحدهم بين السماء والأرض وهي تقول: “ضيعك الله كما ضيعتني”، لأنك لم تحافظ علي، لأنك لم تعقل مني، لأنك نقرتني ولم تخشع في، لأنك لم تنتهي بي عن.. وعن.. فمن لم تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده إلا بعدا من الله.
وأخيرا، كانت لي ملاحظة بسيطة، وهي أن الكاتب – مشكورا – قد ركز كل مجهوده المقدر على صلاة الفجر وحدها، ربما على أنها من فاتته أو هي أصعب الصلوات وأثقلها على الكثيرين، وإذا تمكن المصلي من تسويتها وعلاج أمرها كان على غيرها وسواها أقدر، ولكن الواقع غير ذلك لأن كثيرا من الناس لهم مشاكل أيضا مع الصلوات الأخرى، وتحتاج إلى جهد علمي وتربوي لمعالجتها وتمثل فضلها وتملك أدائها في وقتها، ورغم ذلك يبقى الكتاب قيما وخير جليس ويستحق أن يكون مأدبة دورات وورشات الشباب في جمعياتهم ومخيماتهم، وأسرهم ومدارسهم، ومجموعاتهم وصفحاتهم، لأطروحته العميقة والأزلية: ” لماذا بعض الناس يضطربون في صلاتهم وغيرهم تستقيم لهم؟، أو على الأصح يستقيمون لها فتستقيم لهم”؟. وقس على ذلك أمر الصيام، وأمر العمل، وأمر الأسرة، وأمر الدراسة، وأمر الصداقة والفن والرياضة، وأمر السياسة والكياسة..، بما يعني بشكل عام، أمر الحياة والعباد بين العادة والعبادة.