عودة إلى تهافت كتاب “الحريات الأساسية في المغرب” لأصحابه الثّمانية
شهد الرأي العام الوطني ظهور كتاب جديد لمجموعة صغيرة من ثمانية أشخاص بعنوان “الحريات الأساسية بالمغرب”، وتضمن الكتاب الصادر باللغة الفرنسية اقتراحات صادمة لمراجعة ثوابت دستورية، ولتعديل مدونة الأسرة والقانون الجنائي المغربي. وبالنظر لخطورة هذه الاقتراحات التي ظهرت فجأة وبشكل يبعث على الريبة في توقيتها وخلفياتها ومراميها، مما يتعين معه تبيان وهنها وهشاشتها وخطورتها أيضا.
وبالاطلاع على أسماء الشخصيات الثمانية يتضح أنه لا يجمعهم رابط علمي أو تخصصي أو تنظيمي، اللهم غلبة الثقافة الفرنكوفونية والتخصصات التكنوقراطية، وبعضهم معروف برصيده السّلبي في تدبير قطاعات حكومية ومؤسسات عمومية، لو كان يتم احترام مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لكان بعضهم يؤدي ضريبة الإخفاق في التدبير العمومية سواء في قطاع الصحة أو تدبير قطاع الطيران … كما أنه لم يُعرف على أغلبهم نشاط مدني أو سياسي دفاعا عن حقوق الإنسان بالمغرب.
إن اختيار اللغة الفرنسية لإصدار اقتراحات تهم الشعب المغربي، دليل آخر على الاستلاب الذي كُتب به الكتاب المعني، وكأنه يريد مخاطبة شعب آخر أو جهات أخرى، ويعكس احتقارا للّغة الوطنية وتعاليا على الشعب المغربي. وهذا دأب النخب المستلبة لفرنسا ولنموذجها الثقافي والفكري؛ تلك النّخب التي تعالج قضايانا الوطنية بمنطق الوفاء بدفتر تحملات التبعية الإيديولوجية للغرب؛ علما أن النموذج العلماني والإباحي الذي يعيش أزمة في معاقله ولم يقدّم لمجتمعه وبيئته سوى المآسي الاجتماعية، والمثل الشّعبي عند المغاربة يقول: “لو كان الخوخ يداوي كون داوا راسو”. والحال أنه وإن كان ورش مراجعة مدونة الأسرة وغيرها من القوانين مفتوحا لمساهمة كل المغاربة، لكنه يجب أن يكون حوارا بين المغاربة وبلغتهم وهويتهم وثوابتهم ومؤسساتهم المختصة، وللمغاربة ما يكفي من القدرات والخبرات لمعالجة اختلالات نص تشريعي أو تجويد مقتضياته.
وبالرجوع لمقتضيات مذكرة ثمانية أشخاص، نجد من ضمنها دعوة لمراجعة مقتضيات الفصل الثالث من الدستور المغربي ادعاءً منهم غيابَ التّنصيص على حرية المعتقد في الدستور، وتتجلى خطورة هذا الاقتراح في استهدافه للثابت الدستوري الأول الذي يقوم عليه نظامنا الدستوري والسياسي، والمتمثل في الدين الإسلامي، فضلا عن أن هذا الثابت هو أُسّ نظام إمارة المؤمنين، أما ادعاء غياب التنصيص على حرية المعتقد فهو تدليس بيّن؛ ذلك أن من مقتضيات الدستور “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”، وهذا الموضوع لا يطرح أي إشكال لجميع المغاربة، اللهم إذا كان “للثمانية” أهداف أخرى غير معلنة؛ لم يمتلكوا الشجاعة لإعلانها عِلما منهم علم يقين بأنها دعوى مردودة شعبيا ورسميا في ظل الإجماع على الثوابت الوطنية الجامعة.
كما اقترح “الثمانية” تعديلات لمدونة الأسرة وللقانون الجنائي المغربي، وهي اقتراحات حسب أصحابها نابعة من دراسة ومن استشارة ” للعلماء”، ولكنها كلها اقتراحات ترمي إلى تشجيع الإباحية في المجتمع المغربي المسلم وشرعنة الفساد الأخلاقي في معارضة صريحة لنصوص الكتاب والسنة، وتجاوز للتأطير الملكي لورش مراجعة مدونة الأسرة الذي أصر على أن أمير المؤمنين لا يمكنه أن يحرم حلالا أو يُحلّ حراما، وكذا تجاوز التحكيم الملكي في موضوع جريمة الإجهاض.
إن إقحام العلماء في مذكرة ” الثمانية” غايته التدليس، بحيث لم يذكر أصحابنا أسماء هؤلاء العلماء واكتفوا بإيراد أجوبة عامة نسبت لـ “علماء” تحث على ضرورة الاجتهاد، كما نتساءل لو كان هؤلاء العلماء متفقين معهم لماذا لم يوقعوا معهم على هذه الاقتراحات؟، وهناك ربما سبب آخر لاستدعاء العلماء وهو إحساس الثمانية بنقص في المصداقية والمشروعية التي أرادوا إضفاءها على مقترحاتهم التي يعرفون أنها ستظل قاصرة إن كانت بأسمائهم فقط، وهذا تدليس مكشوف و توظيف بئيس لسمعة علماء المغرب الذين عُرفوا بكونهم الحصن المنيع المدافع عن ثوابت الأمة وهويتها وقيمها، والذين هم براء من اقتراحات تستهدف تقويض المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع.
لقد خصص الكتاب فقرات هامة لتقديم اقتراحات للتعديل، وقد تحتاج منها إلى رد مفصل حسب مختلف القضايا، وإن كنا نتفق على ضرورة المراجعة والاجتهاد والإصلاح، فينبغي أن تكون الاقتراحات منسجمة مع الثوابت المرجعية وحافظة للكليات الأساسية ومعززة لتماسك المجتمع، كما أن للاجتهاد في كل قضية لابد من التقيّد بالضوابط المنهجية للاجتهاد والرجوع لأهل الاختصاص، وليس إطلاق العنان لمن هب ودب للحديث خاصة في بعض القضايا الدقيقة.
كما أن أغلب الاقتراحات التي أدلى بها الثمانية باتت أسطوانة مشروخة وخطابات مكشوفة غايتها العلمنة بالتقسيط للمجتمع المغربي المسلم بعدما آلت خطة العلمنة القسرية الشاملة إلى الفشل الذريع كغيرها من الخطط المستوردة. فمن بين القضايا التي وردت في “الكتاب المعلوم” قضية مراجعة منظومة الإرث وخاصة نظام التعصيب؛ في تجاهل واضح لكون أحكام التعصيب هي مستمدة من نصوص قطعية من القرآن أو قطعية الورود والدلالة من صحيح السنة، إلا استثناءات قليلة كانت محل اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم، وسار على هديهم علماء الأمة منذ وقت مبكر بقواعد وضوابط مستمدة من مقاصد الإسلام وقيمه السامية”
ومن ضمن القضايا الواردة والمتكررة أيضا قضية “جريمة الإجهاض”، والتي فضلا عن كونها تتعلق بأعز حق من حقوق الإنسان وهو “الحق في الحياة”؛ فقد سبق فيها تحكيم ملكي عقب النقاشات المجتمعية التي ظهرت سنة 2015؛ حيث أمر أمير المؤمنين الملك محمد السادس لجنة مكونة من وزير العدل والحريات، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بالانكباب على دراسة موضوع الإجهاض، بالتنسيق والتعاون مع المجلس العلمي الأعلى.
وخلصت اللجنة إلى أن “الأغلبية الساحقة تتجه إلى تجريم الإجهاض غير الشرعي، مع استثناء بعض حالاته من العقاب، لوجود مبررات قاهرة، وحددت اللجنة ثلاث حالات يمكن أن يسمح بها للقيام بالإجهاض، وهي: “أولا: عندما يشكل الحمل خطرا على حياة الأم أو على صحتها، ثانيا: في حالات الحمل الناتج عن اغتصاب أو زنا المحارم، ثالثا: في حالات التشوهات الخلقية الخطيرة والأمراض الصعبة التي قد يصاب بها الجنين”. وإثر ذلك صادقت الحكومة سنة 2016 على إدراجه ضمن مشروع مراجعة القانون الجنائي، ووضْعِه لدى البرلمان، غير أن الحكومة الحالية قامت بسحبه بشكل مثير للاستغراب.
كما تطرق الثمانية -انسجاما مع خلفيتهم المستوردة من الغرب- لموضوع العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج وهي جريمة الزنا المحرمة شرعا والمجرّمة قانونا، والتي يعني رفع التجريم عنها مخالفة صريحة لشرع الله تعالى واستباحة فجة لأعراض المغاربة وفتحا لأبواب من الشرور التي تنتج عنها، كما أن الادعاء أن الممارسات الجنسية الرضائية هي حرية فردية لا تؤدي إلى إلحاق الضرر بالآخرين، قول مردود ودفع هش، ذلك أصحاب المقترح لم ينتبهوا للضرر البليغ الذي يتسببون فيه للمجتمع وللنظام العام، وأول الضحايا هم الأبناء الناتجين عن هذه العلاقة المحرمة والشاذة. وهو ما يفكر فيه أصحاب المقترح والذين يفكرون في إطلاق العنان للشهوة الجنسية دون ضوابط ودون تفكير في المآل المأساوي الناتج عن غياب المسؤولية في ضبط الحرية.
إن هذه المقترحات لا يجمعها إلاّ جامع واحد؛ وهو مسخ الفطرة وبث الانحلال والإباحية في المجتمع، وهي عدوان صريح على هوية المغاربة الإسلامية، وهي مقترحات متهافتة تسعى إلى فرض نموذج مستورد من خارج بيئتنا الحضارية دون نظر في المآلات الكارثية التي آلت إليها بعض المجتمعات من تنامي ظواهر الشذوذ وأبناء الزنا والانتحار والعنف ضد المحارم وغيرها.
إن الغاية من هذا المقال هو مناقشة مقترحات تشكل خطورة بالغة على مجتمعنا، وتبيان تهافتها وهشاشتها وخلفياتها المستوردة ومآلاتها السلبية، انطلاقا من المسؤولية الشرعية والوطنية، دفاعا عن المرجعية الإسلامية وباقي الثوابت الجامعة، ودعوة لليقظة الوطنية خاصة لعلمائنا ومختلف الجهات العلمية المختصة تجاه الدعوات التي تنتهز مناسبة المراجعات التشريعية لبث اقتراحات غايتها الإباحية بالتقسيط وفرض نموذج ثقافي وقيمي غريب عن المغاربة ومناقض للمرجعية، دون أن يعني ذلك بأي حال من الأحوال مصادرة الحق في الرأي والتعبير والاجتهاد من أجل تطوير منظومتنا القانونية لمعالجة الاختلالات وتحقيق العدل بما يجعل المجتمع المغربي ينعم في حياة كريمة مستقرة وآمنة.