عليلو يكتب: حركة التوحيد والإصلاح المغربية وخيار التمايز مع حزب العدالة والتنمية إلى أين؟

1- سياق نقاش العلاقة بين الدعوي والسياسي

لما انخرط جزء من أعضاء حركة التوحيد والإصلاح في حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية سابقا (العدالة والتنمية حاليا) في اتفاق بين المرحوم الدكتور عبد الكريم الخطيب وبين قيادة الحركة في ذلك الوقت، انطلق نقاش داخلي على مستوى مؤسسات الحركة حول طبيعة العلاقة التي يجب أن تربط بين الهيأتين، وتم حينئذ نحت خيارين اثنين هما: الوصل أو الفصل.

ويعني الخيار الأول: اندماج الحركة في الحزب والاستغناء عنها كما حدث في بعض التجارب الإسلامية (النموذج التركي مثلا)، في حين يعني الخيار الثاني: الإبقاء على الحركة باعتبارها مؤسسة تربوية دعوية تشتغل على بناء الإنسان الصالح المصلح، وتتدافع في قضايا الهوية والقيم، فيما يشتغل الحزب على تقديم البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنهوض بالمجتمع المغربي والإسهام من جانبه في المشروع الإصلاحي كما ستتمّ صياغته لاحقا.

وقد اعتمدت الحركة خيار الفصل، الذي يقضي باستقلالية الهيأتان عن بعضهما، مع التأكيد على التنسيق والتشاور، وهو ما نص عليه قرار مجلس الشورى الانتقالي المنعقد سنة 1998م، والتي نص على أن الهيئتين مستقلتان كل منهما عن الاخرى، وأن الجامع بينهما التشاور والتعاون والتنسيق.  وقد تطورت هذه العلاقة سنة 2004 الى التمايز في ظل الشراكة الاستراتيجية بين الهيأتين فيما يعرف بوحدة المشروع بدل وحدة التنظيم. وقد اتخذ مجلس الشورى قرارا في هذا الشأن في يوليوز2004 في ورقة صادق عليها مجلس الشورى، ومما جاء فيها: “التوجه نحو التمايز في الوظائف والخطاب والرموز لتستعيد الحركة تميزها واستقلال شخصيتها المعنوية”.

 فما المقصود بالتمايز في أوراق حركة التوحيد والإصلاح؟ وهل نجحت الحركة في تمثله وتنزيله؟ وهل مازال لهذا الخيار من جدوى؟

2- ماذا نقصد بالتمايز بين الدعوي والسياسي؟

  قبل الجواب على السؤال، لابد من الإشارة إلى أن العلاقة بين حركة التوحيد والاصلاح وحزب العدالة التنمية مرت بثلاثة أطوار:

  • مرحلة الاحتضان: وهي المرحلة التي اتسمت بإعادة بناء هياكل الحزب وإعداد الأوراق المنظمة لهذه المرحلة، بعد مرحلة جمود امتدت سنوات طويلة، وقد تولّت الحركة عملية إعادة البناء هذه، ومد الحزب بالإمكانات المادية والبشرية لينطلق في عمله من جديد، وقد امتدت هذه المرحلة من سنة التأسيس 1996م إلى 2002.
  • مرحلة التنسيق: بعد بناء هياكل الحزب وطنيا وجهويا وإقليميا، ومشاركته في انتخابات 98 وتشكيله لأول فريق برلماني، جاءت مرحلة جديدة وهي التنسيق بين الحركة والحزب، حيث صار لكل هيأة مؤسساتها التي تتخذ فيها القرار مع الإبقاء على التنسيق بين الهيأتين في المحطات الانتخابية سواء كانت محلية أو تشريعية وذلك بمدّ الحزب بما يحتاجه من الموارد البشرية لتغطية الدوائر التي يعتزم التنافس عليها.
  • مرحلة التمايز: وهو الخيار الذي اعتمدته الحركة، واعتبر إبداعا مغربيا خالصا، وهي الصيغة المعتمدة إلى اليوم والتي انطلق العمل بها منذ سنة 2004، فما المقصود بالتمايز؟

يقصد بالتمايز بين الدعوي والسياسي في أدبيات حركة التوحيد والإصلاح أن الهيئتين مستقلتان كل منهما عن الاخرى، وأنه يجمعهما التشاور والتعاون والتنسيق ووحدة المشروع بدل وحدة التنظيم، أي أن الجامع بين الهيأتين هو المشروع الإصلاحي وليس شيء آخر، مع احتفاظ كل هيأة باستقلالها التنظيمي والمؤسساتي عن الهيأة الأخرى. وكل هيأة تتخذ قراراتها في مؤسساتها التقريرية والتنفيذية، كما يتجلى التمايز في اختلاف وظائف الهيأتين ورموزها القيادية، فالحزب يهتم بتدبير الشأن العام، ويترجم ذلك في برامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أما الحركة فتشتغل على ما تصطلح عليه بالوظائف وهي التربية والدعوة والتكوين، وأضيف إليها في الميثاق الجديد للحركة المجال الفكري والعلمي.

كما حرصت الحركة على إبراز التمايز على مستوى القيادات من خلال عدد من المقررات التنظيمية، منها عدم الجمع بين المسؤولية في هيآت الحركة وهيآت الحزب، ومنع مسؤولي الحركة من الترشح إلا بإذن من هيآت الحركة وفي حالات مخصوصة واستثنائية.

وقد كان من مخرجات المؤتمر الأخير للحركة في غشت 2018 تجسيد التمايز على هذا المستوى، حيث لم يعد أي عضو من أعضاء المكتب التنفيذي يجمع بين عضويته في قيادة حركة التوحيد والإصلاح وعضويته في قيادة حزب العدالة والتنمية.

وقد توالت نقاشات داخلية جهود فكرية تمس هذا الخيار أسفرت عن عدد من الإصدارات منها على الخصوص كتابات الدكتور سعد الدين العثماني والمهندس محمد الحمداوي:

” تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة”؛

“الدين والسياسة: تمييز لا فصل”؛

“الرسالية: استيعاب مدافعة” و “العمل الإسلامي: بدائل وخيارات”، فضلا عن اللقاء الصحفي مع أحمد منصور على قناة الجزيرة، والذي صدر في كتاب خاص “مساءلة خيار التمايز وتجربة تنزيله”.

3- هل نجحت حركة التوحيد والإصلاح في خيار التمايز

لكن السؤال المطروح اليوم، بعد مرور أكثر من عقدين على التجربة السياسية للحركة الإسلامية المغربية بكل خياراتها هو: هل نجحت حركة التوحيد والإصلاح في خيار التمايز، وجسدت بالفعل انخراطا قويا في مجالات الدعوة والتربية والتكوين؟ وما حصيلة ذلك؟

في الجواب على هذا السؤال، لا بد من الوقوف على أهم المكاسب التي تحققت مع خيار “التمايز بين الدعوي والسياسي”.

  • مكَّن هذا الخيار من بناء مؤسستين مستقلتين ترتبطان بمشروع واحد انطلق من رحم حركة التوحيد والإصلاح، لكنهما يتميزان باستقلالية تامة عن بعضهما البعض، فلا وصاية ولا سلطة لأحدهما على الآخر، وكل هيأة تتخذ قراراتها في مؤسساتها التقريرية.
  • بروز كفاءات متخصصة في مجال عملها، أهل الدعوة والتربية الذين تفرغوا لهذا الشأن، والعاملون في المجال السياسي وتدبير الشأن العام.
  • تفرغ الحركة للاشتغال بوظائفها الأساسية ومجالات عملها الاستراتيجية، وهي: التربية والدعوة والتكوين والعمل المدني والشبابي ومجال الإنتاج العلمي والفكري.
  • انكباب الحزب على الاشتغال بالشأن العام وتدبيره، وتقديم رؤاه الإصلاحية وبرامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يعود بالنفع على الوطن والمواطنين.

بداية أقر أن هذا الجواب الذي قدمته الحركة من خلال خيار “التمايز” أسعف حزب العدالة والتنمية في رسم مساره السياسي، فتخلص من عبء ارتباطه بالحركة، وتحول بسرعة من حزب يقيم معارك على قضايا الهوية والقيم (كما كان عليه الحال في تجربة الفريق البرلماني 97) إلى حزب يهتم بتدبير الشأن العام والإسهام في إيجاد حلول مناسبة لمشاكل المغرب والمغاربة بعيدا عن التقاطبات الهوياتية والقيمية[1].

وقد ساهم الجواب الذي اعتمدته الحركة إلى حد بعيد في تحرير الحزب من الارتهان لها ولمقولاتها، وخلصه من الانخراط في معاركها الهوياتية والقيمية، ناهيك عن أن وجوده في معترك السياسة والتدبير اليومي، جعله يغير كثيرا من قناعاته، ومثال ذلك موقفه من “اتفاقية سيداو” و”القانون الإطار” الذي قلل من شأن العربية في التعليم العمومي، خصوصا ما يتعلق بلغة التدريس، وكيف بدأت بعض قيادات الحزب تتعاطى مع قضايا مثل الحريات الفردية، والحجاب، وحرية المعتقد…

لكن هل تحررت الحركة مما هو سياسي واقتصرت فقط على ما هو دعوي وتربوي؟ وهل طورت أداءها تبعا لهذا الخيار وأبدعت فيه؟

إن الانخراط في هذا الخيار كان من شأنه أن يجعل الحركة أكثر كفاءة فيما اختصت به، وذلك تبعا لما سطرته في أوراقها، وحددت لها من وظائف أساسية لمجالات اشتغالها وعملها. بحيث ينصب اهتمامها أساسا على واقع التدين بالمجتمع المغربي ومواجهة التحديات المتعلقة به كالإلحاد الجديد؛ الإباحية؛ التحديات الأخلاقية والقيمية…

  لكن الملاحظ حسب رأيي، أن الحركة لم تنسحب مطلقا من الاشتغال بالسياسة، ولم تترك الانشغال بالحزب! فهي متابعة للشأن العام، متفاعلة معه من خلال بلاغاتها وبياناتها وتصريحات قياداتها، بل إن الأمر وصل أحيانا إلى حد إحراج قيادة الحزب (الموقف من التدخل الفرنسي في مالي، الموقف من القانون الإطار…).

ثم إنها ما انفكت منشغلة بالحزب، تواكبه، وتتابع مواقفه، ومشاكله وقضاياه، وإنجازاته واخفاقاته، وهذا لا يعني أنها تتدخل في شؤونه، ولكنها لم تستطع أن تستوعب أن الحزب قد نضج وكبر وتجاوز الحركة في وعيه وأدائه وتدبيره..

لقد أصدرت الحركة عددا من المقررات التنظيمية لتجسيد خيار التمايز بينها وبين حزب العدالة والتنمية، لكن جل هذه المقررات ارتبط بحالات التنافي ومنع قيادات الحركة ورموزها القائمين على الشأن الدعوي والتربوي والاجتماعي.. من الترشح في لوائح الحزب أو المشاركة في الحملات الانتخابية، أو تمكين الحزب من الاستفادة من مقرات الحركة خلال الحملات الانتخابية.

إننا كمساهمون في بناء هذا المشروع مدعوون اليوم إلى مساءلة الأداء الدعوي للحركة في ظل التوجهات الاستراتيجية التي اعتمدتها، وماذا حققت من مكاسب في إطار شعار “ترشيد التدين”، وما هو الحجم الحقيقي لحضورها الدعوي والتربوي سواء في العالم الواقعي أو الرقمي؟ دون أن ننكر نجاح الحركة في انتشال جزء مقدّر من أبناء الحركة الإسلامية من الغلو والتطرف، ودفعهم لتبني فكر الوسطية والاعتدال والمشاركة الإيجابية، وهو مجهود راكمت فيه الحركة نتائج معتبرة لا تخفى على متتبعي شأن الحركة الإسلامية في المغرب.

4- في الحاجة إلى مراجعة خيار “التمايز”

لا شك أن لكل مرحلة تاريخية رؤاها ورجالاتها وأجوبَتها، وقد قدمت “حركة التوحيد والإصلاح” جوابها، نظريا وعمليا على طبيعة العلاقة بينها وبين حزب العدالة والتنمية لزمن معين، لكن السؤال المشروع الذي يطرح نفسه هو: هل هذا الجواب أبدي، باقٍ ما بقي التنظيمان على أرض الواقع؟ أم أن هذا الجواب لم يعد مجديا ولا بد إذن من تطويره وتجديده.

إن الجواب الذي قدمته الحركة –رغم ما فيه من إبداع – صار اليوم مشوبا بالكثير من الغموض سواء عند أبناء الحركة أو عموم المهتمين والمتابعين، ويزيد من تأجيج هذا الغموض التعاطي غير البرئ مع المسألة من لدن عدد من المتابعين والإعلاميين خاصة عندما يعتمدون ثنائية “الذراع السياسي” أو “الذراع الدعوي”.

إن الحاجة ماسة اليوم لإعادة النظر في هذا الخيار “التمايز” وطبيعة الشراكة الاستراتيجية بين الحركة والحزب لاعتبارات كثيرة منها:

  • الغموض والالتباس الذي يطبع هذه العلاقة.
  • التأثير السلبي لمواقف الطرفين على بعضهما البعض، فإكراهات الحزب غير إكراهات الحركة (قانون الإطار والتطبيع والإصلاحات الاقتصادية…).
  • تفويت فرص دعوية على الحركة بسبب هذا الارتباط.
  • ضبابية تمثل عموم الناس لعمل الحركة وربطها بالفعل السياسي، حتى ولو لم تكن عضوا في العدالة والتنمية فأنت موسوم بذلك.

ولا شك أن الفصل بين الحركة والحزب ستكون له آثار إيجابية منها:

  • تفرغ كل هيأة لمجال عملها بعيدا عن تأثيرات الجهة الأخرى.
  • وضوح الصورة عند الأعضاء والمتعاطفين وعموم المتابعين.
  • إمكانية مد الجسور بين الحركة والهيآت المشتغلة بالشأن الديني مثل وزارة الأوقاف والمجالس العلمية…
  • النهوض بالوظائف الأساسية للحركة: التربية والدعوة والتكوين والإنتاج العلمي والفكري..
  • تقوية الطابع الدعوي والتربوي للحركة..
  • إبراز الكفاءات العلمية والدعوية والتربوية للحركة.
  • استفراغ جهد الحركة لبناء وإعداد الإنسان الصالح المصلح.

وختاما أقول: إن الحركة الإسلامية ومنها حركة التوحيد والإصلاح مدعوة اليوم للقيام بمراجعات متنوعة، ومنها مراجعة العلاقة بين الدعوي والسياسي، وقد استهلت حركة التوحيد والإصلاح هذه المراجعة بندوة مجلس الشورى في موضوع “حركة التوحيد والإصلاح وأسئلة المستقبل، أية رؤية”، لكن هذا الجهد بحاجة إلى مزيد.

الأستاذ محمد عليلو

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى