على مشارف مطلع السّنة الهجرية الجديدة 1441هـ، أوس رمال يكتب: لا فائدة من إحياء ذكرى الهجرة إذا لم تكن للاتّعاظ والاعتبار

بسم الله الرّحمن الرّحيم، لقد أصبحت ذكرى الهجرة النّبوية من مكّة إلى المدينة ذكرى يُحتفى بها في عموم بلاد المسلمين حيث أضحت في معظمها أيام عطلة رسمية. وهي ذكرى غير مخصوصة بشيء من الأعمال ولا من العبادات؛ إلاّ أنّها من أغنى الذّكريات بأروع محطّات السّيرة النّبوية العطرة التي يتعيّن على المسلمين تذكرّها والوقوف عندها على سبيل التّأمّل والاتّعاظ وكذا العمل على ترجمتها وإشاعتها ونشرها ليستطيع تأمُّلَها واستيعابَها كلّ النّاس من المسلمين وغيرهم. ولا عجب أن يختار الخليفة عمر رضي الله عنه ومن حوله من علماء الصّحابة مطلع السّنة التي وقعت فيها هذه الهجرة لتكون بداية التأريخ الإسلامي، ولم يعتمدوا تاريخ مولد نبيهم (كما هو الحال عند المسيحيين) ولا حتى يوم الهجرة بالذّات؛ وإنّما اعتمدوا سنة الهجرة لما فيها من المناقب التي خلّدها التّاريخ سواء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لمن حوله من الصّحابة والصّحابيات رضي الله عنهم أجمعين.

وللتّدقيق في تاريخ الهجرة <فقد خرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم من بيته في مكّة مهاجرا إلى يترب (المدينة) في ليلة الجمعة 27 صفر من السنة الرابعة عشرة بعد البعثة الموافق: 13/09/622م. وبقي في الغار ليلة الجمعة والسبت والأحد، ثمّ انطلق ليلة الإثنين فاتح ربيع الأوّل إلى المدينة الموافق 16/ 09/ 622م، ووصل إلى قباء في يوم الإثنين 08 ربيع الأوّل الموافق 23 / 09/ 622 م، حتّى دخل المدينة يوم 12 ربيع الأول>[1].

وعن واقعة التّأريخ الهجري قال محمّد بن سيرين: < قام رجل إلى عمر بن الخطّاب فقال: أرِّخُوا. فقال: ما أرِّخُوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم؛ يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر: حسنٌ فأرِّخوا، فقالوا: من أي السنين نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه، وقالوا: مِن وفاته؛ ثم أجمعوا على الهجرة. ثم قالوا: وأي الشهور نبدأ؟ قالوا: رمضان. ثم قالوا: المحرّم، فهو مصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم[2]

والهجرة معناها في اللغةً: مفارقة الإنسان غيرَه ببدنه أو بلسانه أو بقلبه.

ومعناها في الاصطلاح الشّرعي: مفارقة بلاد الكفر أو مفارقة الأشرار أو مفارقة الأعمال السيئة والخصال المذمومة. والهجرة عموما زهد المرء في كلّ شيء فرارا بدينه.

وفي هذا الصّدد ضرب لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن حوله من الصّحابة والصّحابيات رضي الله عنهم أجمعين أروع الأمثلة؛ بداية من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين زهد في أرضه ووطنه مخاطبا مكة وهو يغادرها بقوله: إِنِّي لأَخْرُجُ مِنْكِ وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيْهِ وَأَكْرَمُها عَلَى اللَّهِ وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ مِنْكِ[3]. ومرورا بعَلي بن أبي طالب وأبي بكر الصّديّق رضي الله عنهما؛ الزاهدان في أرواحهما وأنفسهما: حين خلف علِيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فراشه وهو يعلم بكيد المشركين له في تلك اللّيلة، وحين سبقه أبو بكر إلى الغار ليدرأ عنه بنفسه كلّ ما يمكن أن يتهدّده من الهوامّ والوحوش … ومرورا أيضا بأول المهاجرين أبو سلمة رضي الله عنه؛ الزّاهد في أهله: الذي لمّا أراد الهجرة ومعه زوجته وابنه قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ على مَ نتركك تسير بها في البلاد؟؛ فاخذوا منه زوجته وولده، وانطلق وحده إلى المدينة زاهدا في كلّ شيء. وانتهاء بصهيب الرّومي؛ الزّاهد في كلّ ماله: والذي لمّا أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أنّ تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فأنّي قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ربح صهيب، ربح صهيب. وغيرهم من الصّحابة والصّحابيات كثير لا يتّسع المجال لذكر مناقبهم وتضحياتهم.

وهذه التّضحيات ممّا يجدر بالقنوات والمنابر الإعلامية والمواقع الإلكترونية والدّروس والخطب والمواعظ الوقوف عنده وإشاعته ليتذكّر النّاس كافّة قيمة الحفاظ على دينهم والفرار به من كلّ ما يتهدّد ثباتهم عليه ولو اقتضى الأمر هجرة المال والجاه والسّلطان وكلّ شيء.

ومن الدروس والعبر التي رافقت حدث الهجرة أيضا: عظمة الرّعاية والعناية الإلاهية التي حفّ الله بها نبيّه الكريم وصاحبه؛ فقد جعل المشركون مائة ناقة لكلّ من أتى برسول الله أو بأبي بكر؛ فخرج سراقة بن جعشم في أثرهما حتّى دنا منهما فعثرت به فرسه فخرّ عنها، ثمّ ركبها ثانية حتى صار يسمع قراءة النبي وهو لا يلتفت، وأبو بكر يُكثر الالتفات، فساخت قائمتا فرسه حتى بلغتا الركبتين، فخرّ عنها ثمّ زجرها حتى نهضت، فلم تكد تخرج يديها حتى سطع لأثرهما غبار ارتفع في السماء مثل الدخان، فعلم سُراقة أنّه ممنوع عن رسول الله، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان واعتذر إليه وسأله أن يستغفر له، ثم عرض عليهما الزاد والمتاع، فقالا له: لا حاجة لنا، ولكن عمّ عنا الخبر، فقال: كُفيتم. وهكذا خرج سراقة من مكة طالبا رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاد إليها وهو يصرف أنظار النّاس عنه وعمّن معه… وصدق الله العظيم إذ يقول: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنَجِّ الْمُومِنِينَ)يونس؛ 103. وهذه النّجاة موعودة لكلّ من قوي يقينه في الله تعالى فتوكّلَ عليه ولم يخش أحدا سواه. ولذلك كان شعار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي ظلّ يردّده طوال الرحلة كلّما أحسّ بالخوف ينال من صاحبه: <ما بالك باثنين الله ثالثهما؟> و في ذلك قال تعالى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (سورة التوبة 40). ومثل هذا الثّبات لا يخيّبه الله أبدا ما تعاقب الليل والنّهار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

أعمال شهر محرّم

إذا كان لابدّ من الحديث عن أعمال شهر محرّم وذكر فضائله فحسبنا أن نذكّر أولا أنّه من الأشهر الحرم التي اصطفاها الله تعالى إلى جانب شهر رمضان من سائر الشّهور. والتي فصّلها حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قَالَ: «… السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»[4]، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها؛ لعل أحدَكم أن يُصيبه منها نفحةٌ لا يشقى بعدها أبدا”[5]. حتّى أصبح لدى العلماء قاعدة يقولون: “تضاعف الحسنات والسيئات في كلِّ زمان ومكان فاضل”؛ ولذلك السّعيد من النّاس مَن أعانه الله تعالى على قضاء هذا الشّهر في الطّاعات وفي أعمال البرّ والخير والإحسان.

كما أنّه شهر يُسن فيه الإكثار من الصّيام؛ فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ»[6].

وفي تخصيص يوم عاشوراء بالصّيام قال صلّى الله عليه وسلّم «…..صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»[7]. وقال الشافعي وغيره: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صام العاشر، ونوى صيام التاسع؛ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ وَتُرِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ[8].

هذه بعض العبر والدّروس التي من شأنها أن تعطي لهذه المناسبة معنى أكثر من مجرّد عطلة تنضاف إلى سائر العطل.

وبالله التّوفيق والحمد لله ربّ العالمين.

بقلم الدّكتور أوس رمّال، فاس  في 28 ذي الحجّة 1440/30 غشت 2019.

هوامش:

  • [1] المباركفوري في الرحيق المختوم من رواية ابن إسحاق.
  • [2] أبو داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي.
  • [3] التّرمذي في الجامع؛ من رواية ابن عبّاس.
  • [4] صحيح البخاري؛ كتاب بدء الخلق. عَنْ أَبِى بَكْرَةَ.
  • [5] رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه من رواية محمد بن مسلمة.
  • [6] صحيح مسلم؛ الصّيام. عن أبي هريرة.
  • [7] صحيح مسلم؛ الصّيام.
  • [8] موطّأ مالك؛ الصّيام.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى