صلاة التراويح… تقدير وترجيح

للسنة الثانية، وبفعل تداعيات جائحة كورونا، وبناء على توصيات اللجنة العلمية المكلفة بتدبير الجائحة، وبناء على تمديد فترة حالة الطوارئ في الفترة الليلية، حُرم المسلمون المغاربة وغيرهم من شهود صلاتي العشاء والصبح، وإقامة صلاة التراويح بالمساجد جماعة. وإن كان هذا الحدث متفهما عند غالبية المغاربة، فإنه لازال يثير أسئلة لدى البعض؛ وموضوع القنوات التواصلية الاجتماعية، والتي تذهب إلى حد التشكيك في الاعتبارات التي أُسست عليها الرواية الرسمية، وتمهد لإشاعة فكرة أن الدولة ومن اتخذ قرار عدم السماح بإقامة التراويح داخل المساجد مازالت مسافتهم بعيدة عن  الدين، فضلا عن ركوب موجة المقارنات بين أحوال المغاربة نهارا وليلا، والتذرع بأحوال بعض المهنيين والمنتفعين بتجارة الليل الرمضاني، وهو ما فتح الباب أمام ردود أفعال غير منضبطة، وتتحدى سلطة القانون و”هيبة” مؤسسات الدولة.

إن طبيعة السجال والنقاش والتعاطي الذي رافق هذا الحدث منذ الإعلان عن تمديد الإجراءات الصحية قبيل رمضان1442هـ، يؤكد مجموعة من المعاني والرسائل التي تستحق مزيدا من التأمل المسلح بالهدوء والتريث:

مصلحة الإغلاق

لا أحد يشكك في أهمية فتح المساجد أمام المصلين لشهود صلاة الجماعة في العشاء والتراويح والصبح في شهر رمضان، كما أنه لا أحد يشكك في طبيعة الخطورة التي مازال وباء كورونا يقدمها للبشرية، وبين الأمرين توجد مساحة للتقدير والترجيح والتغليب في اتخاذ الأنسب والأنفع والأصلح في دائرة المكره والمضطر.

إن التسليم المطلق بآلية التقدير والترجيح في ظل إدارة الأزمة، وذلك لفهم المصلحة الكامنة في إغلاق المساجد في وجه المصلين في العشاء والصبح لهو الكفيل بإعادة توجيه بوصلة الاتهام، وإصدار الأحكام إلى بوصلة تحديد المسؤوليات، وتقدير المجهودات، ورصد الثغرات، والرغبة في التعاون  الجماعي للحد منها وتقليلها، أو القضاء عليها.

إن التعامل مع الإجراءات المتخذة لن يكون إلا داخل دائرة “المصلحة”، التي هي مناط البحث عن ترجيح الاختيار المناسب، واختيار الرقم الأقوى احتمالا، حتى ولو كان صعبا، وغير مقبول شكلا وظاهرا، وإلا فالسؤال الذي، ربما،  لا يفكر فيه أحد، ولا يتم استحضاره، وهو: ما مصلحة الدولة في إغلاق المساجد في وقت صلاة العشاء والصبح، والإبقاء على فتح المساجد في الظهر والعصر والمغرب؟ وهو ما يقتضي الابتعاد عن تسطيح الجواب، فضلا عن الابتعاد عن المقاربة الحدية، التي تعد بمثابة تلك الشفرة الحادة التي يمكن أن تصيب من جانبين، وذلك الضلع الأعوج الذي إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته على حاله ظل أعوجا…

القيمة الاجتماعية الجامعة

أفرزت ظروف هذا النقاش الجماعي عن أهمية القيمة الاجتماعية الجامعة التي تؤطر السلوك الجمعي للمغاربة، في تقوية انحيازهم ليكونوا جماعة يشد بعضها بعضا… فإذا كان المغاربة قد شعروا بأهمية صلاة العشاء والتراويح خلال السنة الماضية في حياتهم، وجميعهم تفهم الظرفية العامة التي كانت آنذاك، فإن بعضهم اليوم لم يكادوا يستسيغوا إمضاء قرار استثناء أداء صلاتي العشاء والصبح جماعة بالمساجد، وهذا يؤكد مدى الحرص الذي يكنه المغاربة للمسجد والصلاة الجماعية، وخصوصا تلك الصلوات المرتبطة برمضان( العشاء والصبح). إلا أن هذا الحرص الذي غايته هو نيل الأجر في إحياء ليالي رمضان، ينبغي أن لا يسهم في تحقيق مفسدة ضياع الكلمة، وتشتيت الوحدة الجماعية، والانتقاص من قدر اجتهاد الهيئات المخولة لها شرعا وقانونا في تدبير الجائحة.

إن بعض المحاولات، على قلتها، في إقبال  بعض الأفراد في أداء صلاة التراويح جماعة وفي فضاءات عامة، وفي تحد واعتراض على قرار السلطات العمومية المختصة، ستعيق أو تئد هذه القيمة الاجتماعية الجامعة، وهي القيمة  التي نفتخر بها نحن كمغاربة في تقوية وحدتنا واعتصامنا بحبل الله وحبل الوطن، الذي لا يقبل مزايدة من أحد، ولا مغامرة طائشة من أحد، بل يحتاج إلى صوت الحكمة، وتغليب المصلحة العليا، والتفكير من داخل القيم الاجتماعية الجامعة، وليس من داخل القيم الفردانية والشخصية…حتى نستطيع تجاوز الكوارث والجوائح والأزمات، والظروف الصعبة التي تقتضي لحمة واتحادا وعدم تفريق الكلمة والجهود… وهو ما يعني انتصار الـ”نحن” على حساب الـ”الأنا”…وتأمين الأجر والثواب الجماعي على الأجر والثواب الفردي.

سفينة واحدة

إذا كانت هذه السنوات الأخيرة، وبفعل ظهور الوسائط التواصلية الاجتماعية، والتي أسهمت في تطوير صياغة الرأي العام، والتأثير فيه، مداً وجزراً، فإن الاعتداد بحدية الرأي العام في القضايا المطروحة، أصبحت تلازمه النسبية، ويستدعي مزيدا من اليقظة والحذر الجماعي، حتى لا تتعطل سفينة المجتمع، لأننا جميعا، في نهاية المطاف ركاب سفينة، انطلقنا من مرفأ واحد، ونتجه نحو هدف واحد، وهو ما يقتضي الانتباه إلى المخاطر التي تحدق بالسفينة من كل جانب. قد لا ننتبه نحن ركاب السفينة إلى جدية المخاطر التي قد تهدد سلامة السفينة وسلامتنا؛ قد نستطيع تحديد بعض هذه المخاطر، وقد نتوهم بعضا آخرا، وقد لا نستطيع أصلا، لأننا لا نتسلح بالعُدة اللازمة، والرؤية الاستشرافية التي تمكننا من تحديد هوية هذه المخاطر، وآثارها  الخفية والظاهرة…،  إلا أنه في المقابل، تفرض علينا هذه الظرفية، اختيارا أو اضطرارا،  ألا نفقد الثقة في من يقود هذه السفينة، وإلا أصبح التهديد تهديدين؛ تهديد من المحيط، وتهديد من الذات. وتحول حالنا إلى من يحاول  بسلوك فردي، وتفكير فردي، خرف سفينة المجموع، وسفينة الكل. فحالهم هو حال أولئك الذين قالوا: “لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”، وهو حال من قرر مع نفسه أو مع غيره تحدي قرار السلطات العمومية المختصة؛ والتي هي بمثابة “ولي الأمر” في هذا الشأن،  بإقامة صلاة التراويح جماعة، لكسب حسنات خاصة به، إلا أنه سيكون من أوائل من تُسعر بهم نار الفتنة والفرقة و”الفوضى”… التي لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر…

بقلم: صالح النشاط

-*-*-*-*-*-*-*-*

ذات الصلة: 

تأملات رمضانية في نداء: “يا باغي الخير أقبل”

هلال رمضان، ورؤية الفقيه والفلكي

أخبار / مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    شكر الله لاخواننا القائمين على موقع حركة التوحيد والإصلاح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى