رمضان: بناء القوة وقوة البناء
باسم من امتلك الوجود وحده، وأمر بالجود خلقه، وصلاة وسلاما على من لا نبي بعده
“وخلق الإنسان ضعيفا ” (سورة النساء، الآية 28)
إن هذه القاعدة تأكدت عند أول أمر إلهي، كلف به أدم هو الامتناع عن الأكل من الشجرة إلا أنه أكل منها وتجلى ضعفه أمام شهوات نفسه.
“وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ”سورة البقرة، الآية 35، أي: لا تأكلا منها ـ على سبيل الكناية ـ باعتبار أنَّ المطلوب بالقرب منها، هو الأكل من ثمرها، تماماً كما يأكلان من بقية أشجار الجنّة، فكأنه قال: كُلا منها رغداً إلاَّ من هذه الشجرة. عندما أمر الله بصيام رمضان، أراد الله أن يبني القوة في خلقه حتى يضبطوا هذه الشهوات. إن أول شهوة من شهوات النفس بينت ضعف الإنسان هي شهوة البطن. أخفق أدم عليه السلام في ضبطها بل إنه وقع في أول معصية في تاريخ البشرية حتى قبل نزوله إلى الأرض.
فرمضان إذن هنا محطة لبناء القوة لدى الإنسان، فهو يضبط شهوة بطنه وإذا استطاع ذلك، كان على غيرها أقدر. بل أن هذا الامتناع عن تناول الطيب الحلال من الطعام والشراب أدعى للإنسان أن يكون قادرا على ترك الحرام والابتعاد عنه. فبناء القوة والقدرة في رمضان ليس مقترنا فحسب بترك الأكل والشرب والمتعة بل هو مقترن أيضا بأجر إفطار الصائم ـ فالإسلام عندما يحث على إفطار الصائم إنما يبني القدرة على تقاسم هذا الطعام مع الآخر رغم أن الصائم في حاجة إليه، بل يثيبه على ذلك ويجعل العلاقة مع الآخر أرقى. فأن يعطي الصائم وهو في أوج الحاجة يزيده أجرا وثوابا. فضلا عن إفطار الصائم، هناك أيضا، بالنسبة للمريض والعاجز والمسافر، رخصة بالفطر ولكن يبقى عليهم القضاء وإن كان المرض مزمنا أو العجز دائما، تبقى عليهم الفدية حتى تتحقق فيهم شروط هذه القوة. ثم أن في طعام السحور، بناء لهذه القوة، بحيث يكون الصائم قادرا على مواجهة الجوع والعطش خلال يوم صيامه. ولا ننسى أيضا زكاة الفطر، إنها من أبرز تجليات القوة في رمضان بحيث يعطيها الفقير والغني، الكل مطالب بإخراجها وكأن بالمولى سبحانه يعمم رسالة مفادها أن كل الصائمين على حد سواء في مرتبة القوة والعطاء وحتى لو كانوا فقراء معوزين. إن هذا الإحساس بأن كل الصائمين، فقيرهم وغنيهم يمثلوناليد العليا لا يتحقق إلا في رمضان.
تترتب عن هذه القوة الروحية والقوة المعنوية قوة خلقية، لا يقبل الصيام إلا إن تأتت، فإن لم يأت بها الصائم، رد عليه صيامه. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فلتقل إني صائم إني صائم”، أخرجه ابن حبان والحاكم. وعنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر” أخرجه النسائي وابن ماجةوأحمد. ففي رمضان، قوة الأخلاق تغلب أخلاق القوة. وبقوة الأخلاق، تتقرب إلى الخلاق في مشهد يعز أن تشاهده في غير شهر رمضان.
أضف إلى ذلك أن للصيام أثر على صحة الصائم، فهو يخلص الجسم من السموم ويجدد الأنسجة، ويقوي المناعة. كما خلص العلماء مؤخرا أن الجسم يتماثل للشفاء بفعل عملية الصيام. وصدق الله عندما قال: “وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون” سورة البقرة، الآية 148. أليس هذا بناء للقوة البدنية.
إقرأ أيضا: رمضان شهر الانتصارات: بدر الكبرى.. يوم الفرقان |
بين القوة المعنوية والقوة البدنية، يكتسب الصائم أيضا قوة أسرية. فلوجبتي الفطور والسحور وظيفة التحام بين أفراد الأسرة الواحدة لأن وقتيهما مقترن بساعة محددة من السحر ومن المغرب. فلا يمكن تفويت هذه الساعة، فجميع أفراد الأسرة يجتمعون في هاتين الوجبتين وهذا لا يتأتى إلا في رمضان. مما يزيد من توطيد أواصر الأسرة الواحدة فضلا عن اجتماع الأقارب وذوي الرحم في هذا الشهر الفضيل. من تماسك الأسرة، يتدفق إلينا تماسك المجتمع ثم الأمة جمعاء، فعندما تتوحد المشاعر وتتوحد الشعائر، يصبح للعبادة معنى آخر، فاها هم الأغنياء يغدقون على الفقراء في شهر الجود وهذه القفف الرمضانية توزع.فتحس وكأن جميع مكونات المجتمع والأمة تتنفس نفسا واحدا، يرتقي بها إلى مصاف المجتمعات المتكافلة والأمة المتضامنة.
وتصبح القوة أكثر صفاء وتجليا في العشر الأواخر من رمضان وفي ليلة القدر عندما يمنحك الوهاب فرصة تغيير القدر بالدعاء ويعطيك مثوبة ألف شهر من العبادة وهي ما يعادل ثمانون سنة أي عمرا بأكمله. إنه سبحانه يهديك أجور عمر بأكمله في ليلة واحدة.يقول تعالى في سورة القدر ” ليلة القدر خير من ألف شهر” أي قوة هذه منحت في رمضان؟وتستمر هذه القوة إلى أول أيام شوال. فيحصل الصائمون على جائزتهم.إن الصائمين حينما يخرجون من صلاة العيد سوف يقبضون جوائزهم، فقد نجحوا في هذا الامتحان وتخرجوا من مدرسة رمضان قال رسول الله: ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطريق فنادوا: اغدوا ـ يا معشر المسلمين ـ إلى رب كريم، يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلّوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة)) رواه الطبراني في الكبير.
ولاستلام الجائزة، يندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطايب في يوم العيد لما أخرجه الحاكم من حديث الحسن السبط قال: أمرنا رسول الله في العيدين أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد. رواه البيهقي. من خلال هذه الشعائر، تتجلى القوة في أبهى صورها بحيث يحتفي المؤمن بانتصاره في معركة النفس وفي معركة الحضارة. يحتفي بقوة لا مثيل لها ولا نظير، فيرتدي أجمل حلله. لأنها قوة تنبع من الداخل و تمتد إلى الخارج و تفيض خيرا و بركة و رحمة على العالمين. وقد تحققت هذه القوة عندما أحرز المسلمون انتصاراتهم في هذا الشهر المبارك منذ عهد النبوة إلى العصر الحديث. وما يعيشه المسلمون من دعة وخمول وضعف خلال شهر رمضان، إلا لأنهم لم يدركوا بعد روح رمضان على بعث القوة في الفرد والمجتمع والأمة: قوة في العبادة، قوة في البذل، قوة في العلاقات، وقوة في الأمة.
بعد هذه المنزلة الرمضانية التي تشيد للقوة، فلا بد لها ما بعدها بحيث أن هذه القوة لا يحدها شهر معين أو زمن محدد بل تتجاوزه لترسخ البناء وتعززه. نعم، مع توالي الأيام في هذا الشهر الفضيل والمؤمن يبني قوة ذاته وقوة من حوله، فتترسخ هذه القوة ونجني بعدها قوة في بناء المعتقد، وفي بناء العلاقة وفي بناء الأخلاق وفي بناء الحضارة. بالفعل، رمضان، يحرر الإرادة من الخضوع للإغراءات. فمن تحررت إرادته في رمضان، تحررت في باقي الأيام ومن بنيت قوته في رمضان، تقوى بنيانه في سائر الأيام، بل إن هذه القوة الوهاجة التي تغمرنا في رمضان وترافقنا لما بعد رمضان إنا هي راجعة لعامل جوهري ألا وهو أن في رمضان، يعظم المؤمن أمر الآخرة على أمر الدنيا. إن تعظيم المؤمن لأمر الآخرة هو السر الدفين الذي جعل رب العزة يجعل جزاء الصيام له وحده. لأنه رغم الإغراءات والتحديات، سواء كانت نفسية، خلقية، علائقية، اقتصادية أو اجتماعية، فقد آثر المؤمن أمر الآخرة وأخذ بزمام ذاته واستمد قوته من القوي وارتقى بها إلى صرح التقى و العتق. فجعل أمر الآخرة أسمى غاياته. فكيف يحيد عنها بعد رمضان؟ من المؤكد أن هذه الغاية هي التي ستقوي بنيانه في مسيره ومساره الدنيوي.
ذ. سحر الخطيب