رمال يكتب : ما أكثر “التّدوين” الذي يكبّ النّاس في النّار على وجوههم
إنّ من المألوف أن ترى متفرّجا يصرخ على اللاّعب الذي يتواجد داخل الميدان في قلب مساحة العمليات يأمره بتمرير الكرة يُمنة أو يُسرة أو بقذفها مباشرة أو أو…. وهو يعلم يقينا أنّ اللاّعب لا يسمعه بل لا يعلم حتّى بوجوده؛ والأعجب من ذلك أنّه إذا لم يتصرّف اللاّعب بمثل ما صرخ به المتفرّج “البارع” تجده يسبّه ويلمزه بشتّى ألفاظ الإهانة والازدراء، ولسان حاله: (لو كنت مكانه لكنت فعلت ما يتعيّن فعله). لكنّه في حقيقة الأمر لا يفعل وإنّما يعرف الكلام فقط.
وهذا بالضّبط ما يحدث لكلّ مدوّن مغرور ومغمور يختبِئ خلف شاشة هاتفه أو حاسوبه ثم يُخرج قلمه الأحمر ويشرع في التّلذّذ والانتشاء بتصحيح أخطاء كبار العلماء ورموز السّياسة وخيرة الدّعاة و…و… الذين لم يستطع هو أن يُدرك معشار ما بلغوه من “العلم/العمل”؛ بالضّبط كما يفعل أي صبي متفرّج ربّما لم يسبق أن مسّت قدمه قطّ كرة القدم عندما يسمح لنفسه بلمز من في حوزته عدة جوائز وكُرات ذهبية.
ويعزو علماء النّفس المعاصرون هذه الظّاهرة -من جهة- إلى حاجة المتفرّج “المدوّن” إلى ستر ضعفه وعجزه عن الإتيان بمثل ما أتى به اللاّعب في الميدان، و-من جهة أخرى- إلى تنفيس ضغط الحسد العميق الذي يُكنّه له بحيث يعتبر نفسه أحقّ منه بالمقام الذي بلغه “بغير حقّ”.
لقد أصبح التّدوين عند بعضهم وسيلة لتصفية الحسابات ولفضفضة ما في مكنون نفسه الضّعيفة الأمّارة بالسّوء مِن لمز وقدح وقذف ورجم بالغيب وسوء ظنّ؛ وإن كان يعلم سوء فعله تجده يُصرّ على التّوطئة لذلك بمبرّرات من قبيل “قول الحقّ ولو على الوالدين والأقربين” و”عدم النّفاق” و”حبّ الصّراحة” و”واجب النّصح” و… و…
هذا عن المدوّن “المغرور” المصاب بمرض الغرور وهو لا يدري.
وهناك نوع ثان؛ وهو المدوّن “المجرور” وهو الذي له في الأصل شخصية متوازنة تعرف حدود الصّواب واللّباقة والأدب في الكلام “في التّدوين” وتدرك معنى حُرمة الأعراض وتتهيّب من الوقوع فيها، وتدرك جيّدا عاقبة “سوء الظّنّ” ومآل المغتاب الذي لا يتورّع على نهش لحوم الغائبين. لكنّه بالرّغم من ذلك كلّه تجده ينساق وراء المدوّن المغرور خصوصا إذا كان يرى فيه قدوة؛ فتجده يجاريه بتدوينات مؤيّدة ويعاضده؛ هذا إذا لم يكن أكثر منه غرورا فيُزايد عليه ويقع في أشدّ ممّا وقع فيه.
ولن أتحدّث عن الصّنف الثّالث وهو المدوّن “المأجور” الذي يبيع نفسه ويسخّر جهده ليكون من الذّباب الذي يسارع إلى الانتشار فوق الفريسة بمجرّد وقوعها على الأرض بإيعاز من مفترسها.
إقرأ أيضا : إغتنم خمسا قبل خمس مع الدكتور أوس الرمال |
وحقيقة الأمر أنّ عالَم التّدوين الذي يسمّونه “العالم الافتراضي” هو مثله مثل عالم الحقيقة “عالَم الشّهادة” يخضع لرقابة الدّيّان القائل سبحانه:”قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلاَرْضِ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا۟ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” الزّمر؛ 46.
فالتّدوينة إذا كانت ظنّا يُشيع التّشكيك والرّيبة حول أحد من النّاس فهي عند اللّه إثم مبين قال فيه المولى عزّ وجل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱجْتَنِبُوا۟ كَثِيرًۭا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌۭ” الحجرات؛ 12.
وإذا تطوّرت لتصبح تجسّسا وذِكرا للغائب بما يكره فهي عند الله غيبة كاملة لا يغفرها الله حتّى يغفرها الذي صدرت في حقّه. قال تعالى: “وَلَا تَجَسَّسُوا۟ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًۭا فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌۭ رَّحِيمٌۭ الحجرات”؛ 12.
أمّا إذا كانت التّدوينة استهزاء وازدراء وسخرية ولمزا وهمزا ونبزا بالألقاب فهي عند الله فسوق وظلم يستدعي التّوبة والرّجوع إلى الله القائل في محكم كتابه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌۭ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُوا۟ خَيْرًۭا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٌۭ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيْرًۭا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا۟ بِٱلاَلْقَٰبِ بِيسَ ٱلِٱسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلاِيمَٰنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ” الحجرات؛ 11.
والمدوّن إذا كان مجرّد ناقل للأنباء وللشّائعات دون أن يتبيّن كذبها من صدقها فهو في ميزان الشّرع فاسق عن أمر الله القائل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۢ بِنَبَإٍۢ فَتَبَيَّنُوٓا۟ أَن تُصِيبُوا۟ قَوْمًۢا بِجَهَٰلَةٍۢ فَتُصْبِحُوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ” الحجرات؛ 6.
والعاقل الكيّس الفطن هو الذي يفهم أنّه كما يتعيّن عليه لجم لسانه إلاّ عن القول الحسن. فكذلك عليه أن يمسك عن التّدوين إلاّ عمّا كان يلزمه شرعا؛ فيدوّنه بأدب وحكمة ولا يتجاوز قدر ما تتحقّق به المصلحة الشّرعية، ولا ينسى أبدا قول عالم السّرّ والعلن: “ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” التّوبة؛ 94، وقوله: “مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” ق18
ولنا في هدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم ما يعصمنا من الوقوع في المحذور: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (… وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِي جَهَنَّمَ). صحيح البخاري؛ الرّقاق.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يدلّه عمّا يُدْخِلُه الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُه مِنَ النَّارِ وعَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ وعلى رَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِثُمَّ ختم له بقوله (أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ. قال معاذ: قُلْتُ بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ :كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) سنن التّرمذي؛ الإيمان.
فما أكثر ما سيُحاسب عليه المرء يوم الدّين؛ يوم يقال له “اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا”(الإسراء 14) ومن الغبن أشدّ الغبن أن يحاسب المرء عن تدوينات ضرّها أكثر من نفعها كتبها ثمّ نساها.
اللهمّ إنّا نعوذ بك من أن نَزِلّ أو نُزَلّ أو نَذِلّ أو نُذَلّ أو نضِلّ أو نُضَلّ أو نَظلِم أو نُظلم أن نَجهل أو يُجهل علينا.
واجعلنا اللهمّ من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولائك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
والحمد لله ربّ العالمين.
د. أوس رمّال