رفيق عبد السلام: السياسة دون حاضنة قوية بالمجتمع المدني تتحول لمجرد عمل تقني متمركز حول النفوذ والتموقع

قال رفيق عبد السلام؛ الوزير التونسي السابق، أن العالم الإسلامي يمتلك تجربة تاريخية ثرية في المجتمع المدني سواء على المستوى الفكري النظري أو على المستوى العملي فيما كان يعرف ويصطلح عليه بالمجتمع الأهلي الذي هو المجتمع المدني حاليا، مع الوعي بعين الاعتبار سياقات التطور التاريخي بحيث أنه كانت هناك دائما مساحات اختلاف ولكن في المقابل هناك أقدار كبيرة جدا من التقارب والتشابه بين مقولة المجتمع المدني والمجتمع الأهلي والمقصود بها كل ما يشكل العمل العام والمنظم من هيئات دينية وتعليمية وخيرية.

وأضاف السياسي التونسي أنه لهذا السبب لا يمكن قراءة التاريخ الإسلامي من زاوية الحكم أو من زاوية الدولة الذي كان يتسم في الغالب بحالة مزمنة من الصراعات والانقسامات (الصراعات بين السلاطين والأمراء والأسر الحاكمة والعصبيات) ولكن ما ضمن استقرار الاجتماع السياسي تاريخيا هو هيئات المجتمع المدني أو ما كان يعبر عنه بهيئات المجتمع الأهلي من مساجد ومؤسسات دينية ووقفية وعمل خيري وغيرها.

وتابع رفيق عبد السلام “هذا ما سمح بمراكمة الخبرة والتجربة التاريخية في العالم الإسلامي وضمان قدر من الاستقرار والانتظام في المجتمع الإسلامي مقابل التقلبات السياسية التي كانت تشهدها الأسر الحاكمة”.

وأوضح المتحدث إلى أنه لو نظرنا إلى التاريخ الإسلامي من الزاوية الحصرية للدولة أو الأسر الحاكمة لاستنتجنا أن العالم الإسلامي بالغ التقلبات والإنقسامات ولم يتوفر على الحد الأدنى من الاستقرار، لكن إذا نظرنا إلى الاجتماع السياسي الإسلامي من زاوية المؤسسات والهيئات الناظمة فعلا كان هناك قدر كبير من الاستقرار والانتظام ومراكمة التجربة والخبرة التاريخية بما سمح بتطور الحياة المدنية، من فنون ومعارف وغيرها في جميع المجالات وفي جميع المناشط.

ونوه رفيق إلى أن الخبرة التاريخية الإسلامية ثرية حتى في الجانب الفقهي والديني من خلال الجماعة التي ينظر باعتبارها الحاضن الرئيسي لمنظومة الدين والقيم ومصدر التمييز بين الحق والباطل كمثال “لا تجتمع أمتي على ضلال” استقرت في المنظومة الفكرية الإسلامية، وهذا يعكس الانشغال المهم بالجماعات المنظمة أو بالأمة بمعناها العام باعتبارها الإطار الجامع للدين والقيم.

وأشار القيادي في حركة النهضة التونسية إلى أن ما يحفظ توازن المجتمعات واستقرارهم هو المؤسسات الإجتماعية الناظمة لأنها خزان الخبرة التاريخية وأداة الانتظام والانسجام المجتمعي. وما ضمن استمرار الحياة هو وجود المؤسسات التي تضمن مراكمة الخبرة والتجربة واستقرار المجتمعات، فاكتشاف المؤسسة يعبر في وجه من وجوهه عن العبقرية الإنسانية في ضمان الاستمرارية والتغلب على فكرة الموت.

ونبه عبد السلام إلى أن المعضلة الكبيرة التي يعانيها العالم الإسلامي خلال القرنين الأخيرين في سياق تجربة التحديث الفوقي التي فرضت على العالم الإسلامي هي حالة الفراغ والتجويف التي حصلت في العالم الإسلامي لصالح الدولة المركزية.

وبين أن الدولة استأثرت بمختلف المجالات وبمختلف الأنشطة وكان ذلك على حساب الأفراد وعلى حساب المجتمع المدني المنظم، وهذا ما يفسر وضعية الاضطراب التي تعانيها المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث، وحتى أن صعود ظاهرة الإرهاب تعود في وجه من وجوهها إلى تفكك أدوار المجتمع الأهلي أي ضعف دور المؤسسات التعليمية والدينية وتراجع سلطة عالم الدين أو الفقيه، إذا نتيجة هذا الفراغ المؤسسي والفراغ الاجتماعي الذي حصل بسبب تجربة تحديث المشوه التي قامت على الدولة المركزية والتدخلية أحدثت فراغات شديدة استفادت منها مجموعات كثيرة بما في ذلك المجموعات العنيفة في العالم الإسلامي.

أما عن الوضع الراهن، أفاد رفيق عبد السلام أنه رغم ثراء التجربة التاريخية الإسلامية التي تصلح بالفعل للاسترشاد والبناء عليها إلا أن هناك ضعف كبير على صعيد المجتمع المدني في أغلب البلاد الإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص. مقابل المركزية الشديدة للدولة والحالة التدخلية للدولة نشاهد مقابل ذلك ضعف شديد ووهن في المجتمع المدني ومؤسساته الناظمة.

وفي خبرة الإسلاميين في الحركة الإسلامية والحالة الإسلامية -يضيف المتحدث- للأسف يكاد يختصر مفهوم المجتمع المدني عند المسلمين عامة بما في ذلك الإسلاميين في بناء المساجد وإدارة العمل الخيري ونسبيا في التعليم الديني في أحسن الحالات مع تجاهل مجالات أخرى بالغة الأثر مثل الفنون والأداب والعلوم وقطاعات الاقتصاد والمال وغيرها التي تدخل في شكل من الأشكال في إطار المجتمع المدني.

وفي تجربة الربيع العربي، أتاحت الثورات العربية مجالا واسعا للعمل السياسي والمدني وتبعا لذلك حدثت طفرة نوعية في مجال المجتمع المدني بسبب ارتفاع منسوب الحريات الخاصة والعامة.

وتابع وزير الخارجية التونسي سابقا “الثورات العربية غيرت بالفعل السقف السياسي للقوى السياسية والاجتماعية بما في ذلك القوى الإسلامية، يعني قبل الربيع العربي أقصى ما كانت تطمح إليه القوى السياسية الإسلامية أن تكون لها مشاركة جزئية في الحكم ببعض الحقائب الوزارية المحدودة، لكن الربيع العربي قذف بها في قلب المعادلة السياسية وفي قلب المشهد السياسي وفرض عليها أن تتحمل أعباء الحكم بشكل أو بآخر في مواقع مختلفة سواء تعلق الأمر بالتجربة المغربية أو التجربة التونسية أو في مواقع أخرى بما في ذلك مصر”.

ودعا رفيق إلى إعادة تقييم هذه التجربة، هل كانت بالفعل تجربة الحكم أو الإقدام عليها كانت في مواقيتها وكان من المناسب اقتحام تجربة الحكم بذلك المقدار وبتلك النسبة أم أن المسألة كان فيها تقدير آخر؟

وخلص رفيق عبد السلام أن الإسلاميون في تجربة الربيع العربي صرفوا طاقاتهم وجهدهم الأكبر في مجال العمل السياسي وكان ذلك على حساب موقعهم في المجتمع المدني، مستدركا أنه من الطبيعي جدا لأن المرحلة كانت سياسية بامتياز لأن الزلزال السياسي الذي وقع بعد الثورة التونسية ومنه انتقل إلى أقطار عربية أخرى الحالة السياسية في المغرب وفي ليبيا وفي مصر واليمن وفي غيرها من الأقطار العربية الأخرى فرضت على القوى الإسلامية أن تقحم إلى المجال السياسي ولكن ذلك كان في الغالب الأعم على حساب مجالات ومناشط أخرى في المجتمع المدني كانت تمثل عناصر قوة بالنسبة للإسلاميين.

وتساءل السياسي التونسي هل استفراغ كل الجهود والطاقات في مجال العمل السياسي الحركي كان خيارا مناسبا أم غير مناسب؟ مؤكدا أن ذلك يحتاج إلى تقييم. مشيرا إلى أنه كان مفهوما من الناحية السياسية أن تتركز الجهود والطاقات نحو المشغل السياسي الحزبي وإدارة شؤون الحكم ولكن هل كان ذلك يفرض التفريط في مجالات ومساحات أخرى تخص المجتمع المدني؟

واستحضر رفيق أن تجربة الربيع العربي بقدر ما بينت قدرة الإسلاميين على التأطير والتحشيد الشعبي بقدر ما أبرزت ضعفهم في حقول المجتمع المدني وخصوصا في قطاعات الإعلام والفنون والثقافة والعمل النسوي وغيرها في الوقت الذي استأثرت قوى أخرى يسارية جذرية ومعادية للتوجهات الإسلامية بهذه الحقول وبهذه المجالات.

واستخلص رفيق أن السياسة بدون حاضنة قوية في المجتمع المدني تتحول إلى مجرد عمل تقني متمركز حول النفوذ والتموقع مع استنزاف الشرعية السياسية والأخلاقية.

المجتمع المدني في المنظور الغربي والدبلوماسية الموازية

أكد رفيق عبد السلام أن الاستثمار في المجتمع المدني أصبح أهم وسيلة اليوم لما بات يعرف بالدبلوماسية العامة، أي أن الدبلوماسية التقليدية تقوم على الهيئات الرسمية للدولة من سفارات وقنصليات وعلاقات بين الفاعلين الرسميين بينما اتجه المجتمع المدني أو المفهوم الجديد للدبلوماسية اتجه إلى توسيع نطاق العمل المدني ليشمل ما يعرف اليوم بالمجتمع المدني.

وأوضح الوزير التونسي السابق أن الدول الكبرى لم تعد تعول على العلاقات الرسمية فقط في إداراة مصالحها وعلاقاتها العامة، بقدر ما تتجه إلى إقامة علاقات أفقية مع هيئات ومؤسسات المجتمع المدني أو ما يسمى بالفاعلين غير الرسميين من أحزاب ومنظمات وجمعيات وغيرها. وهذا نراه اليوم بصورة مباشرة حتى أن العلاقات الدبلوماسية لم تعد تمر فقط عبر الدولة والهيئات الرسمية ولكن في الغالب تتجه رسميا لربط علاقات وصلات مباشرة بهيئات المجتمع المدني والفاعلين السياسيين غير الرسميين.

وأشار رفيق إلى أنه لم يخلو مصطلح المجتمع المدني من تأثيرات الصبغة الغربية القائمة على ثنائيات قاطعة بين الدين والعلمانية وفي الغالب في الحقل المصطلحي الغربي يستخدم مصطلح التمايز بين الحقل المدني والديني، المدني يقابله الديني. لكن طبعا هذا خارج التجربة التاريخية الإسلامية حيث اقترن معنى التمدن بالدين كلما ارتقى الإنسان في حسه التديني يرتقي أيضا في حسه التمدني سواء تعلق الأمر بمجاله الفردي أو بمجاله الجماعي.

وذهب رفقي غبد السلام إلى أنه حتى في النطاق الغربي تطور هذا المفهوم ضمن سياقات تاريخية مختلفة بدءا من مرحلة السبعينات والثمانينات في مواجهة المنظومة الشيوعية نشطت منظمات وهيئات المجتمع المدني بما في ذلك المجموعات الدينية والكنسية التي أصبح ينظر إليها باعتبارها مكونا رئيسيا وفاعلا في المجتمع المدني خاصة في أوربا الشرقية وأوربا الوسطى في مواجهة المنظومة الشيوعية ثم فيما بعد انتقل الأمر  إلى أمريكا الجنوبية.

وجاءت مداخلة رفيق عبد السلام في إطار الندوة الدولية الرقمية التي نظمها قسم العمل المدني المركزي لحركة التوحيد والإصلاح مساء السبت 12 مارس 2022، بالمقر المركزي للحركة بالرباط وعبر البث المباشر على صفحة الحركة في الفيسبوك، في موضوع : ”المجتمع المدني: عشر سنوات من الربيع الديمقراطي والحوار الوطني” وذلك بمناسبة اليوم الوطني للمجتمع المدني الذي يوافق 13 مارس من كل سنة.

وشارك في الجلسة الأولى للندوة كل من الأستاذ عبد الرحيم شيخي؛ رئيس حركة التوحيد والإصلاح، والأستاذ مولاي اسماعيل العلوي؛ وزير التربية الوطنية السابق، والمفكر والباحث محمد طلابي، والأستاذ رشيد العدوني؛ مسؤول قسم العمل المدني، بالإضافة إلى السيد رفيق عبد السلام وزير خارجية تونس السابق. 

فيما شارك في الجلسة الثانية من الندوة الأستاذ مصطفى الخلفي؛ وزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني سابقا، والأستاذ الجامعي الدكتور عبد الحفيظ اليونسي.

الإصلاح

 

 

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى