رسائل لكل معلم ومرب – الحسين الموس

قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]

بعد كل عطلة سنوية يستعد المرء لاستئناف العمل، والناس إزاء هذا الأمر أنواع وأصناف، فمنهم المتثاقلون الذين يُقبلون عليه كارهون كأنما يساقون إلى الموت، ويشرع في التفكير في العطل المقبلة. ومنهم من يبدأ متكاسلا  لكن سرعان ما ينشط بالشروع في العمل، ومن الناس – رغم قلتهم – من يحمد الله تعالى على نعمة الاستراحة والإجازة، ويُقبل على العمل بلهفة وشغف، متذكرا أنه خلق للعمل لا للكسل، وأن الراحة ليست هي الأصل في هذه الدنيا. ولمثل هؤلاء جاء الأمر الإلهي: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

وإنه حري بالمعلم والمربي أن يكون في زمرة العاملين، المقبلين على العمل، المستبسلين في القيام به وإتقانه. وإن مما يحفزه على ذلك أن مهنته ليست كبقية المهن؛ بل هي من أشرفها وأعظمها أجرا، إنها مهمة الأنبياء والمصلحين الذين يربون النشء على القيم النبيلة والأخلاق العالية. وقد نطق بذلك إمام الشعراء شوقي فقال:

                                قم للمعلم ووفه التبجيلا    كاد المعلم أن يكون رسولا

ومن ثم فإن الأستاذ وهو يوقع محضر استئناف العمل يوقع عقدا مع ربه سبحانه، ويقدر بذلك جسامة المهمة الملقاة على عاتقه، وحين يلتقي ببراءة الطفولة والشباب ويقابل تلامذته وطلابه فإنه يزداد حماسا وقوة، وينخرط في رسالته ناسيا كل مشقة أو تعب، متذكرا أن الله تعالى مُطلع عليه مُراقب لعمله، ثم أن ثمرة جهده يراها التلاميذ والآباء والزملاء وكل الناس.

ثانيا : القدوة الحسنة:

قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]

بدأت السورة بهذا العتاب من الله تعالى للمؤمنين في عدم التزامهم بما يقولونه وعدم وفائهم بالتزاماتهم…ووصفت من يقول ما لا يفعل بأنه ممقوت عند الله تعالى… وختمت بسورة مضيئة لأصحاب عيسى عليه السلام حين وصفتهم بسرعة الاستجابة لدعوة الحق سبحانه، ولا يكون ذلك إلا بحسن الامتثال والقدوة للناس في الالتزام بالدين.

والسورة سميت في المصاحف بسورة الصف وكذلك سماها البخاري في جامعه الصحيح…ولعل اسمها يدعو إلى الاستواء والاصطفاف فالقدوة تبدأ من وقوفنا صفا بين يدي اله تعالى غير مختلفين ولا متنافرين ….

قال ابن عاشور: الاستفهام عن العلة مستعمل هنا في إنكار أن يكون سبب ذلك مرضيا لله تعالى أي أن ما يدعوهم إلى ذلك هو أمر منكر وذلك كناية عن اللوم والتحذير من ذلك، ويجوز أن يكون القول الذي قالوه وعدا وعدوه ولم يفوا به، ويجوز أن يكون خبرا أخبروا به عن أنفسهم لم يطابق الواقع .

سبب النزول: وفي جامع الترمذي ” عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه ” فأنزل الله تعالى ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله . وفي رواية أخرى …عن الكلبي : أنهم قالوا : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها فنزلت ( هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) الآية . فابتلوا يوم أحد فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) تعيرهم بترك الوفاء، فكأن أول السورة نزل بعد آخرها…

وفي التعبير بالمضارع إفادة الأمر بالدوام على الإيمان وتجديده في كل آن وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإيمان وشؤونه ، وأما ( تجاهدون ) فإنه لإرادة تجدد الجهاد وهو أنواع وأشكال ومن أهمه لواقعنا الجهاد التعليمي والتربوي، وهو ما يقوم به الأساتذة والمربون.

أيها المعلمون والأساتذة وأيها الآباء والأمهات إن الدخول المدرسي يذكركم جميعا بالمهمة الجسيمة الملقاة على عاتقكم إنها مهمة التربية والتزكية للنشء الصاعد وهي مهمة ثقيلة في ميزان الله تعالى، وتتطلب أن تكونوا من أهل القدوة وممن يقولون ما يفعلون ويفعلون ما يدعون إليه من الأخلاق الحميدة والسلوك الحسن ….

أيها المربون حين تتوافد عليكم هذه المجموع المتجددة من التلاميذ والطلبة ماذا أعددتم لها وبم تستقبلونها ؟ إنهم أمانة في أعناقكم فقدروا الكلمة التي تقولونها وزنوا الحركة قبل أن تتحركوا بها، واعلموا أن الدارسين والدارسات يسمعون بأعينهم أكثر من سماعهم بآذانهم نعم إن القدوة لا يكفي بها مجرد الكلام بل تحتاج إلى ممارسة الأفعال والعلم ليس مجرد نصوص تحفظ ولكنها الممارسة والتطبيق العملي الذي يجعل من النصوص أشكالا تتحرك وأشخاصا تترجمها إلى واقع عملي فتنساب في أذهان التلاميذ والتلميذات  ويتيسر عليهم هضمها والإستفادة منها، وإلا فكلامكم لن ينفع :

 يا أيها المعلم غيره        هلا لنفسك كان ذا التعليم

 تعيب خلقا وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم

روى مسلم في صحيحه أنه قيل لأسامة بن زيد: لو أَتيتَ عثمانَ فَكلَّمْتَهُ ، فقال : إنكم لَتَرَوْنَ أَنِّي لا أُكَلِّمُهُ إِلا أُسْمِعُكم ، وإني أُكلِّمُهُ في السِّرِّ ، دونَ أَن أَفْتَح بابا لا أكونُ أوَّلَ مَنْ فَتحَهُ ، ولا أَقول لرجلٍ إن كان عليَّ أَميرا : إِنَّهُ خيرُ الناس : بعدَ شيء سمعتُه من رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ، قالوا : وما هو ؟ قال : سمعتُه يقول : يُجَاءُ بالرجل يوم القيامة فيُلْقى في النار ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فيدور كما يَدُور الحمار بِرَحَاهُ ، فَيجتَمِعُ أَهل النار عليه، فيقولون : يا فلان ، ما شأنك ؟ أَليس كنتَ تأمُرُنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول : كنت آمُرُكم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه.

ثالثا التربية بالقدوة أبلغ وأقصر طريق:

يقول الشيخ محمد قطب:”إن من السهل تأليف كتاب في التربية، ومن السهل أيضاً تخيل منهج معين ،ولكن هذا الكتاب وذلك المنهج يظل ما بهما حبراً على ورق، ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك، وما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه، وتصرفاته،ومشاعره، وأفكاره مبادئ ذلك المنهج ومعانيه، وعندئذٍ فقط يتحول إلى حقيقة…إذ من غير المعقول أن نطالب أبناءنا بأشياء لا نستطيع نحن أن نفعلها،ومن غير الطبيعي أن نأمرهم بشيء ونفعل عكسه…وقد استنكر البارئ الأعظم ذلك في قوله تعالى:”أتأمرون الناسَ بالبِر وتنسون أنفسَكم وأنتم تتلون الكتابَ ،أفلا تعقلون؟!”،وفي قوله جل شأنه:”يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟! كَبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.

قال ابن كثير قال الضحاك، عن ابن عباس: إنه جاءه رجل، فقال: يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تفْتَضَح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني. قال: قوله تعالى: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2، 3] أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرفَ الثالث. قال: قول العبد الصالح شعيب، عليه السلام: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود: 88] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك.

أيها المدرسون أيها الآباء إنكم ملح البلد فمن يُصلح الملح إذا الملح فسد أنكم أطباء النفوس ودواؤها فكيف تصفون الدواء لغيركم وأنتم مرضى؟ قال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت، ثم أنشأ يقول:

وغير تقي يأمر الناس بالتقى … طبيب يداوي والطبيب مريض …

قال: فضج الناس بالبكاء…

وقال أبو الأسود الدؤلي:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم …

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها … فإذا انتهت عنه فأنت حكيم …

فهناك يقبل إن وعظت ويُقتدى … بالقول منك ويَنفع التعليم …

 أيها المدرسون والمدرسات مهنتكم من أعز المهن فجملوها بالإخلاص واحموها بالجد والمتابعة والمواظبة، ومهما كان نوع رقابة البشر عليكم فضعوا رقابة الله دائما نصب أعينكم وتذكروا دائما قوله تعالى :” ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد”، اعلموا أن الغرس الذي تغرسونه اليوم سيثمر غدا.

ولا يكن شبح الإمتحان همكم الوحيد أو معوقا لرسالتكم التربوية النبيلة فالمدرس قبل أن يكون ملق معلومات هو مربي المطلوب منه أن يساهم في تكوين مواطن صالح متشبع بقيمه الإسلامية، منفتح على حضارة العصر مستفيد من حسناتها ، إنه بأخلاقنا العالية  كمعلمين وأساتذة ومعاملتنا الطيبة نصل إلى قلوب الطلاب .

كما أنه من خلال تضحيات المربين ومساهماتهم بجانب الإداريين في الأنشطة الثقافية والعلمية نساهم في تكوين جيل قوي سنأجر عند الله على ذلك .

 

 

 

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى