رحلة الوفاء والصلة – محمد سالم انجيه

بتوفيق من الله تعالى قضينا ليلتين مع أخينا محمد البوحمادي في مدينة أوستند البلجيكية، المدينة الهادئة المنظمة والنظيفة، تخطيطها العمراني وخدمات النقل المندمجة، فضلا عن الرعاية الاجتماعية للمرضى والمتقاعدين والمسنين، كل ذلك وغيره يبرز بوضوح نجاح الإدارة المحلية في تدبير أدق احتياجات السكان، بعيدا عن السلطة المركزية، فالمدينة لها شخصيتها، وسكانها يشعرون بقيمة الانتماء المحلي من خلال لغة الخطاب اللغة الأم، دون مركب نقص أمام الوافد الأجنبي..

أثناء رحلاتي وفي محطاتها المختلفة حدثت نفسي عن جدوى الحديث ابتداء بلغة البلد الذي نصل إليه ولو تكلفا، ولم نتجاهل لغتنا الأم، فكثيرا ما نصدم- خاصة في مطارات أوربا- عند طلب خدمة أو استفسار باللغة المحلية فيرد عليك المسؤول بفصحى أو لهجة عربية بعد تعرفه على ملامحك ولكنتك؟؟ إن علينا المبادرة بالسلام والسؤال بلغتنا فإن تعذر الرد فلا بأس من استعمال اللغة المناسبة للمكان..

اللغات الأم في دول العالم هي لغات الإعلام والتدريس، ووسيلة خطاب أطقم البيع بالأسواق فضلا عن تبيان محتويات المنتجات التجارية بها..

تجولنا في بعض الأسواق الكبرى، وفي شوارع المدينة الرئيسية، وعلى الشاطئ الهادي ليلا.. الأمن سمة عامة، والتعايش والاحترام طبيعيان فيما شهدنا…

صلينا الفجر في مسجد عائشة القريب من مسكنه، قاعاته فسيحة، فرشه جيد كما تجهيزاته، تقدم فيه دروس العربية وتحفيظ القرآن للأطفال، وتقام فيه الجمعة، أصل تملكه لمسلمة بلجيكية تسكن أعلاه…وفي المدينة مساجد أخر غيره لم نتمكن من زيارتها مع الأسف.

يهتم أخونا محمد البوحمادي كعادته بالتعرف على محيطه، وله قدرة فطرية على نسج العلاقات، والبحث عن الجوانب المشرقة لدى من يتعرف عليهم، ومميزات الأماكن التي يقطنها أو يمر بها ولو كانت مستشفى…

حدثنا حديث العارف عن مرافق المدينة وبالخدمات التي تقدمها البلدية والمصالح الاجتماعية للسكان، والإبداع في تحصيل الموارد والمداخيل والمحفزات المادية للانخراط في برامج البلدية ومشاريعها المجتمعية..

لا يزال شفاه الله تعالى يخضع لحصص الترويض، ويلتزم بمواعيد المراقبة الطبية المترتبة على علاجه بمستشفى سان لوك الجامعي ببروكسيل الذي أمضى فيه حوالي عام كامل، سبق أن زرته فيه سنة 2016، لأنه هو الآخر ابتلي فجأة بمرض نادر تجاوز محنته حمدا لله بقدر كبير من الصبر والاحتساب رضى بأقدار الله تعالى، نسأل الله تعالى لنا وله دوام العافية والجزاء الحسن..

كانت إقامتنا معه فرصة للصلة واستعراض ذكريات عديدة جمعتنا منذ أول تعارف بيننا ونحن تلاميذ سنة 1986 إلى الآن، مرورا بمحطة جمعية نادي الشروق التي كان أحد أبرز ناشطيها ومؤطريها بخلفيته الكشفية، وبما جبله الله عليه من حب الخدمة والعطاء، وفضول الاطلاع الايجابي…

لقد كان من السباقين إلى الانتفاع بالثقافية الإسلامية في أبعادها العالمية عبر إدمانه شراء المجلات العربية الرائدة حينها، الغنية بالمقالات الرصينة لكبار العلماء والمفكرين، والحوارات المتخصصة للدعاة والباحثين، والتحقيقات الميدانية، مع متابعة مجريات الأحداث الدولية…

الأخ محمد البوحمادي أنموذج حي للشخصية المنفتحة، الحريصة على النفع، دون تقيد بحدود جغرافية، أو عرقية أو فكرية، أو تنظيمية ضيقة…

تشرفنا مغرب يوم السبت 26 أكتوبر بزيارة الأخ أحمدو الغلاوي (ابن الطانطان)، وتجاذبنا أطراف الحديث في قضايا شتى إلى ما بعد العشاء، فكانت فرصة للقائه والتعرف عليه، سائلين الله تعالى أن يجعل ذلك بداية أخوة صادقة خالصة لله..

بحلول وقت مغادرتنا لمدينة أوستند متوجهين إلى مدينة ليل الفرنسية حيث رحلة إيابنا مساء الأحد إلى الدار البيضاء، أصر على مرافقتنا عبر القطار وتشييعنا إلى مدينة بروج، كما حرص على رسم مسار رحلتنا إلى المطار بتفصيل دقيق..

ودعناه على رجاء اللقاء مجددا بحول الله، ثم قطعنا الطريق بواسطة الحافلة إلى ليل في أقل من ساعة ونصف، حيث نزلنا أمام المحطة الطرقية، وسرنا راجلين مسافة قصيرة إلى موقف حافلة خاصة تربط بين مركز مدينة ليل والمطار جيئة وذهابا…

ما أحوج ما عندنا من مطارات لحافلات نقل منتظمة تربطها بمراكز المدن..

مطار مدينة ليل يبدو صغيرا لكن رحلاته كثيرة، وتنظيمه بسيط،.. أدركنا وقت الصلاة فلم نجد “فضاء” خلافا للمطارات الكبرى، سألنا دورية من ثلاثة عساكر عن مكان للصلاة، فقال أحدهم مبتسما يمكنكم التخفي في زاوية والصلاة!!

منطق الإدارة هنا محكوم بضرورات الاجتهاد والإبداع في تدبير الفضاءات وتوظيفها على نحو تكاملي يخدم المرتفق، ويرفع عنه ما يحتمل من حرج بسبب ضيق المكان أو عدم ملاءمته…

تلكم خاتمة كلمات صغتها سردا يصف رحلتنا الموسومة ب”رحلة الوفاء والصلة”، سائلين الله الكريم المنان أن ينفع بها الكاتب والقارئ والناشر إن اشتملت على فائدة، ويغفر ويتجاوز عما فيها من أغراض أو حظوظ نفسية، والله العاصم من الزلل والغافر للذنب والخطل..

والحمد لله رب العالمين.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى