د. أوس رمّال: “لحظات الغضب أدعى إلى التمسّك بالحكمة” نداء إلى الإنصاف والاحترام المتبادل

في خضمّ الجدل الذي أثارته قضيّة إعفاء رئيس المجلس العلمي المحلي لفجيج، وبين ردود الفعل المتباينة والمتوتّرة، يجد المرء نفسه مدفوعا إلى التذكير بما أرشدنا إليه ديننا الحنيف من ميزان عدل، وخُلق إنصاف، وحكمة في الاختلاف.

لقد جاء قرار الإعفاء كما هو واضح من الوثيقة الرسمية؛ في صيغة مقتضبة جافّة، لا تحمل أي تعليل ولا احترام -ولو رمزي- لمقام عالم قضى سنوات في خدمة الشأن الديني. وهذا في ذاته باعث على الأسى، ودافع إلى طرح تساؤلات مشروعة حول منهجية التدبير المؤسساتي داخل قطاع حساس كوزارة الأوقاف.

لكن في المقابل، جاءت بعض ردود الفعل متسرّعة، وحادّة؛ بل جارحة أحيانا في حق علماء نجلّهم مهما اختلفنا معهم في بعض المواقف، ومنهم الدكتور مصطفى بنحمزة؛ الذي ظلّ لعقود صوتا حاضرا في التوجيه الديني والفكري.

نحن اليوم أحوج ما نكون إلى خُلق التوازن بين النقد المسؤول والاحترام الواجب؛ فليس من الوفاء للعلم ولا من أدب الاختلاف أن تتحوّل مواقع التواصل ومنابر التعبير إلى ساحات رمي وسباب، باسم “الغيرة على الدين” أو “الانتصار للمظلوم”. كما أنه ليس من الحكمة ولا من الأمانة أن نصمت صمتًا كليًّا أمام التجاوزات أو القرارات المجحفة، أو أن نبرّر كل ما يصدر عن الجهات الرسمية وكأنه وحي لا يُناقش.

فالعلماء الذين التزموا الصمت أو اكتفوا بالحياد في وجه قضايا كبرى وعلى رأسها ما يتعرض له أهلنا في غزة من إبادة؛ لهم مسؤوليتهم الأخلاقية أمام الله؛ لأن الصمت في سياق الفتن والجرائم العلنية يُعدّ تواطؤًا، أو على الأقل تقصيرًا في أداء أمانة البيان، التي قال الله فيها: “وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُ” [آل عمران: 187].

لكن في المقابل، فإن الإمعان في التخوين، والتقليل من شأن الرجال، والطعن في النيّات ـ كما لو كنّا نقرأ السرائر أو نمتلك مفاتيح ضمائر الناس؛ هو انحراف عن العدل ومجاوزة لحدود الأدب.

فإن كانت الكلمة الطيّبة صدقة؛ فإن الكلمة الجارحة قد تكون سهمًا مسمومًا، تُفسد النيات، وتقطع جسور التواصل، وتزرع الفتنة في صفوف الأمة.

إننا نُؤاخِذ البعض على الصمت عن الظلم، ولكن هل من العدل أن نردّ على هذا الصمت بالتحقير والتجريح والسخرية؟ وهل نُقيم العدالة بإسقاط الرموز، أو نُصلح المؤسسات بتقويض ما بقي من هيبتها؟

النصيحة في الإسلام مقرونة بالحكمة، كما قال الله: “ٱدۡعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَـٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ” [النحل: 125]، والنبي ﷺ يقول: “ليس الشديد بالصّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”. والغضب؛ وإن كان مشروعًا في وجه الظلم؛ لا ينبغي أن يحجب عنّا البصيرة، ولا أن يجرّنا إلى الفظاظة التي تذهب بروح النصيحة، وتحرمها من بركتها وتأثيرها.

لهذا، فنحن نحتاج إلى خطاب يتّسم بالعدل في النقد، وبالرفق في المحاسبة، وبالاحترام في التعبير، حتى نظلّ أوفياء للحق، دون أن نكون عبيدًا للغضب، أو أسرى للحظة.

ولئن كانت حرية الرأي والتعبير من نعم الله في هذا العصر، فإنها تُقيَّد دومًا بسياج التقوى، وخلق الرحمة، وتقدير أقدار الناس.
وفي الأخير، يبقى رأينا صوابا يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، كما قال الإمام الشافعي، وما أجمل أن نرجع إلى مثل هذه الحكم في أزمنة التوتر والاندفاع.

فلنرفع السقف الأخلاقي في خلافاتنا، ولنحذر أن يتحوّل غضبُنا من السياسات إلى إسقاطات جارحة على أشخاصٍ لهم تاريخ (طاحت الصمعة – علّقوا الحجّام).

نسأل الله أن يُصلح أحوالنا، ويوفّقنا للرفق والعدل، وأن يجعل كلمتنا جامعة لا ممزّقة، راشدة لا غوغائية.
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود 88).

الرّباط: 10 صفر الخير 1447 هـ / 04 غشت 2025 م

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى