دروس من فريضة الحج

تدور محاور مقاصد الحج على تصحيح الاعتقاد والتعبد، وعلى الدعوة لانتظام شمل المسلمين ووحدة كلمتهم، وعلى التربية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكية للنّفوس والقلوب والأرواح والأبدان؛ قال تعالى: ” لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ” [الحج: 28] الآية؛ وقال ابن عباس – رضي الله عنهما -: منافع الدنيا والآخرة، فأما منافع الآخرة، فرضوان الله – جل وعلا – وأمَّا منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات.

ومن أبرز دروس فريضة الحج تلكم المحبةَ التي جعلها الله – تعالى – لبيته الحرام في قلوب عباده، يستنفرهم البيت من كل فج رجالا أو ركبانا؛ قال تعالى: ” وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا “[البقرة: 125]، قال ابن عباس – رضي الله عنهما – فيما رواه عنه ابن جرير وغيره: لا يقضون منه وطرًا، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.

ولا تزال الأفئدة تهوي إلى ذلكم البيت، وتتوق إلى رؤيته والطواف به، الغني القادر، والفقير المعدم، مئات الألوف من هؤلاء وهؤلاء يتقاطرون من أصقاع الأرض؛ ليلبوا نداء إبراهيم – عليه السلام – الذي نادى به منذ آلاف السنين: ” وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ” [الحج: 27].

ومن دروس الحج أيضًا تذكير الأمة بأن أعظم ما يَجب أن تهتم به، وأن تُحافظ عليه، وأن تغرسه في النفوس: تحقيق التوحيد لله – سبحانه – وتحقيق الغاية القُصوى في الخضوع والتذلُّل له – عزَ شأنه – توجهًا وإرادة، قصدًا وعملاً، ولذا افتتح النبي – صلى الله عليه وسلم – حجته بالتوحيد؛ كما يقول جابر – رضي الله عنه -: “فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”، وكذلك الأنبياء من قبل كانوا يلهجون بالتَّوحيد ويلبُّون به؛ ففي صحيح مُسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: أنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – مَرَّ في حجِّه بوادي الأزرق، فقال: أيُّ وادٍ هذا؟ قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: كأنِّي أنظر إلى موسى – عليه الصلاة والسلام – هابطًا من الثَّنِيَّة له جُؤار إلى الله – تعالى – بالتلبية، ثم أتى على ثَنِيَّة أخرى، فقال: أيُّ ثنية هذه؟ قالوا: ثنية كذا وكذا، قال: كأنِّي أنظر إلى يونس بن متَّى – عليه الصلاة والسَّلام – على ناقةٍ حمراء، عليه جبة من صوف وهو يُلبي.

إنَّ الواجب علينا جميعا استحضار ما دلت عليه هذه الكلمات من معنى، ومعرفة ما تضمنته من دلالات، وعلى المسلم أن يكون على دراية عظيمة بهذا المعنى في حياته كلها، محافظًا عليه في كل حين وآن، مراعيًا له في كل جانب، فلا يسأل إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكَّل إلا على الله، لا يطلب المدد والعون والنَّصر إلا من الله، مُستيقنًا أنَّ الخير كله بيد الله، وأزمة الأمور بيده ومرجعها إليه، لا مانعَ لما أعطى ولا مُعطيَ لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.

وإذا كان الأمر كذلك في حق الأفراد، فالأُمَّة جمعاء حري بها أن تستلهم من الحج تلك الدروس والعبر، وأنْ تعلم أنَّ القاعدة الثابتة لاستقرار حياتها هو تحقيقُ التوحيد لله – جلَّ وعلا – في مناشط الحياة كلها، وأن تحقق الخضوع التام لله، والذل المتناهي له – سبحانه – ترسيخا للعقيدة الصحيحة في واقع الحياة، وتأصيلا لها في النفوس، وإلا فمن دون ذلك تتخطفها الأهواء وتتقاذفها الأوهام؛ ” الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ” [الأنعام: 82].

إنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – حينما يكبر الله عند كل شوط في الطواف، ويكبر الله عند الصفا والمروة، ويكبر الله عند رمي الجمار، ويكبر الله في أيام التشريق – لهو يبعث في النفوس شعورا عميقا لقيمة ذكر الله وتكبيره في حياة المرء المسلم، وإن كلمة “الله أكبر”، لهي رأس الذِّكر وعموده، وهي أول ما كلف به النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – حين أمر بالإنذار:” يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ” [المدثر: 1-3].

بالذِّكر تُستدفعُ الآفات، وتستكشف الكربات، وتهون به على المصاب الملمات؛ قال ابن عباس – رضي الله عنه -: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل، وسوس، فإذا ذكر الله خَنَس)، وقال الحسن البصري – رحمه الله -: (تفقَّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذِّكر، وفي قراءة القُرآن، فإنْ وجدتم وإلاَّ فاعلموا أنَّ الباب مُغلق).

لما غربت شمس يوم عرفة، وذهبت الصُّفرة قليلاً حتى غاب القرص، دفع النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – من عرفة، وقد شَنَق لناقته القصواء الزمام حتى لا تسرع، وهو يقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينةَ السكينة، السكينة السكينة.

إن هذا الموقف الجليل الذي تتسابق فيه النفوس إلى الخير، يبين أن الهدوء والطمأنينة والسكينة وعدم الاستعجال هو الشعور الإيجابي، وهو الطريقة المباركة لكل نجاح أمثل.

إن العجلة من مقتضيات حظوظ النفس البغيضة والجهل بالعواقب؛ وذلك لخروجها عن الإطار المشروع حتى في حال العبادة؛ يقول الباري – سبحانه -: ” وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ” [الإسراء: 11]، بل حتى في أدق مواضع العبادة يقول النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (إنَّ الله يستجيب لأحدكم ما لم يَعْجَل، يقول: دعوت، فلم يستجيب لي)؛ رواه البخاري ومسلم، فحري بكل عاقل أن يلزم التأني في أموره كلها، الحياتيَّة والعبادية؛ لأنَّ المرء العجول تصحبه الندامة وتخذله السلامة،

إن للحج حكما عالية، ومقاصد نافعة، ففيه يتعارف المسلمون، ويَجتمعون فيه على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وأوطانهم وألسنتهم وألوانهم، يلتقي المسلم بإخوانه المسلمين، فتلتقي القلوب، وتزداد المحبة والمودة والائتلاف.

وفي الحج تذكير بالدار الآخرة؛ حيث يصور الحج ذلك تصويرا عجيبا، فالميت يتنقل من دار الدُّنيا إلى دار الآخرة، والحاج ينتقل من بلاد إلى أخرى، والميت يُجرد من ثيابه، والحاج يتجرد من المخيط، والميت يغسل بعد تجريده، والحاج يغتسل عند ميقاته، والميت يُكفن في ثياب بيضاء، وكذا الحاج يلبس إزارا ورداء أبيضين نظيفين، والأموات يحشرون سواء، وكذا الحجاج يقفون سواء كذلك، وهذا غيض من فيض من حِكَم الحج ومقاصده.

منقول (بتصرف)

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى