حنين المساجد في زمن كورونا – بنداود رضواني

هل يستقل الإنسان بالإرادة عن غيره…؟ ولم يستحيل أن تكون للجماد إرادة حقيقية وليست مجازية كما يقول الزمخشري في الكشاف ؟؟!!، فالجمادات تسبح لله سبحانه وتسجد له مع موكب الساجدين من أهل الأرض والسماء، قال تعالى

“أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ “، الحج/ 18. والمعلوم أن السجود والتسبيح  لا يصدران إلا عن إرادة حقيقية، يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في سياق بيانه للآية 77 من سورة الكهف، ” فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ “، : (وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقية، لأن الله تعالى يعلم للجمادات إرادات وأفعالا لا يدركها الخلق.) انتهى.

ولقد أَحَبَّ جبل أحد النبِيَّ صلى الله عليه وسلم على الحقيقة لا المجاز، وثبت تحت قدميه، واستجاب لأمره، و كل ذلك لا ينبثق إلا عمن يري ويسمع، يعقل ويريد، يتحرك ويسكن، يحزن ويسر..، وهي أحوال وأحاسيس جلاها الله لنبيه إعجازا لمن خالفه، و تثبيتا لمن صدقه وآمن به، جاء في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدا جبل يحبنا ونحب)، يقول النووي في شرحه لمسلم: (والصحيــــح المختار أن معناه أن أحدا يحبنا على الحقيقة، جعل الله فيه تمييزا يحب به ).

والمساجد وإن كانت تبدو في الظاهر جامدة، فليست بالضرورة أنها مسلوبة المشاعر مفتقرة إلى الأحاسيس…، إنها تعي وترى…، تفرح وتحزن..، تشتاق وتحن…، لكن الحكمة الإلهية ضربت بجدار من الرحمة بيننا وبين فهم أصواتها وإدراك مشاعرها في هذه الدنيا.

إن لها حنينا إلى المؤمنين لا يضاهيه حنين آخر، حنين متصل عبر الزمان، ممتد في المكان..، لكن مع أيام البلاء هاته فقد انهمر حنين بيوت الله إلى روادها و فاضت أشواقها إلى عمارها….

حنين المساجد اليوم يستبطن الكثير من مشاعر الحب للراكعين، وعواطف الود للساجدين أكثر من أي وقت مضى، ما من موضع في بيت الله إلا ويترقب صلاة المؤمنين فيه، وينتظر أهله من الخاشعين، فكل لبنة فيه وسارية قد ازينت لمقدمهم، وتجملت لعودتهم….

يحن المسجد اليوم إليك أكثر من أي وقت مضى، فهو يبتهل إلى الله ليعيد إليه حياته….ويرد عليه سناه وبهجته…

يحن إليك بيت الله ليشاركك الهموم التي ألمت بك والغموم التي طوقتك…

يحن بيت الله إلى وقوفك بين يدي الله، وليسمع شكواك بين سيدك ومولاك…..

لقد اشتاق بيت الله إلى احتضان الداعين والمستغفرين والمسبحين والمهمومين….، سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا أمامة الأنصاري عن السبب الذي أجلسه في المسجد في غير وقت الصلاة، فيجيبه: “هموم لزمتني وديون يا رسول الله….”.  أخرجه أبو داود في سننه. وهذا ليس بدعا من الأمر، فأهل المساجد سنتهم هي سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام إذ كان عليه الصلاة والسلام يفزع إلى الصلاة في مسجده كلما  حزبه أمر  ليلقي بأحماله وأوجاعه بين يدي سيده ومولاه.

تحن بيوت الله في الأرض والملائكة في السماء في هذه الزمن العصيب إلى أهل الإيمان، فلسان حالهما يتضرع ليرفع الله البلاء عن الناس حتى يسعى المؤمنون في أنوار بيوته من جديد، ولتضاء فيها مواطن القيام، ومواضع السجود، ولتسعد كذلك  ملائكة السماء برؤية إشراقة أهل السجود في سجودهم و ابتهالهم يقول أحد الحكماء: “أهل الأرض ينظرون في السماء نجوما متلألئة، والملائكة في السماء ينظرون نجوما متلألئة في بيوت الله”.

يحن إليك بيت الله مع كل أذان للصلاة، وفي صلاة الليل خاصة، يقول صلى الله عليه وسلم:” بشر المشائين في الظلم إلى المساجد، بالنور التام يوم القيامة “، حديث الترمذي وأبي داود .

يحن المسجد ويتوق لأناس، كانوا من فرط تعلقهم به، أنهم يسعون إلى الفرائض فيه بالحب و يسيرون إلى التراويح في رمضان بالأشواق، ينقل ابن المبارك في”الزهد”عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قوله: ” ما جاء وقت صلاة قط إلا وقد أخذت لها أهبتها، وما جاءت إلا وأنا لها بالأشواق.”.

تحن أماكن السجود، وتبكي بكاء الحبيب على محبوبه، على صفوة الناس بعد الرسل والصحابة، ممن تعلقت قلوبهم ببيت الله الحرام، وقد غيبهم الوباء، وحبسهم البلاء، يروى إبن أبي حاتم أن عليا رضي الله عنه قال” إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض، ومصعد عمله من السماء، إن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا مصعد في السماء، ثم تلا قوله تعالى ( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ) الدخان/29..

ولغياب الطائفين والركع السجود يئن بيت الله الحرام، ولأجل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تحن المآذن، ولسان الكائنات يردد:

ما للمآذن تشتكي وتنوح        وتقول أن فؤادها مجروح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى