حركة النقد ونقد الحركة – محمد عوام

من الحرية التي ينبغي أن يتمتع بها الفرد، سواء بمفرده أو داخل تنظيم ينتمي إليه، دعويا أو سياسيا أو علميا وفكريا، أو غير ذلك، ممارسته للنقد، من غير تحجير على إرادته وفكره، وأعتبر ممارسة حرية النقد من مقومات كرامة الإنسان، التي كفلتها كافة الشرائع المنزلة قبل أن تنص عليها المواثيق الدولية. وأي تجمع بشري في إطار حركي دعوي أو حزبي سياسي، أو دولي، لا يسمح لأفراده بممارسة النقد مآله إلى الفشل والاندثار، من جراء عوامل التآكل الداخلي، التي -لا ريب في ذلك- تفت من عضده، وتكبل حركة وجوده وتفاعله مع القضايا والمستجدات.

وممارسة النقد دليل على النضج والوعي الفكري والحركي، ودليل على الاستمرار والفاعلية الإيجابية والرقي الحضاري، لأن عملية النقد تقوم أساسا على النظر والتدبر والتأمل لحركية الحركة الدعوية أو التجمع الحزبي والسياسي، بحيث تعتمد الحركة الدعوية على المراجعة والتقويم والتجديد والإضافة، مع رصد كامل للتطور الحاصل، وتفاعلا مع حركية الدعوة في الوجود، سواء داخل محيطها الوطني أو الدولي.

وحركة التوحيد والإصلاح المنبثقة عن توحيد تيارين إسلاميين إصلاحيين، هما: حركة الإصلاح والتجديد، ورابطة المستقبل الإسلامي، لها حظ وافر من ممارسة أفرادها لحرية النقد، بدون مجاملة ولا مبالغة، يقل نظيره في بعض الفصائل والحركات الدعوية الأخرى، وأكبر دليل على ذلك عندي أن الوحدة التي تمت في تسعينيات القرن الماضي، وعشنا أحداثها المباركة، لم تحصل لو لم تكن هناك حرية للنقد على مستوى المدارسة والممارسة والنظرية والتطبيق، تطلب ذلك مراجعة شاملة لكل المناهج التربوية والفكرية التي كانت تشتغل عليها الرابطة والإصلاح والتجديد، طبعا هذه المراجعة النقدية أبقت ما ينبغي إبقاؤه لقوته وفاعليته، وجدته وجدواه، وألغت ما ينبغي إلغاؤه أو حذفه، لانتهاء صلاحيته، وغالبا ما كان ذلك من صميم الوسائل لا المقاصد، لأن الوسائل قابلة للتجديد والتطوير والتحوير والتنقيح، حتى تنسجم مع المقاصد التربوية والدعوية.

من هنا حق لي أن أقول –وأنا لا أريد أن أنغمس في شيء من تاريخ الحركة، الذي كانت فيه نقاشات قد تكون أحيانا حادة، كل يدافع عن رأيه، وفي آخر المطاف يتم الاتفاق على الرأي السديد والرشيد- عن حركة التوحيد والإصلاح إنها حركة نقدية، وأقصد بذلك أن النظام أو البناء الذاتي للحركة يسمح بممارسة النقد داخل مجالسها وهيئاتها، بكل حرية، فهي حركة واعية بدور حرية النقد في صقل الأفكار وفركها وإبراز نفيسها وجيدها، وحسنها وأحسنها، لبلورة تصور حقيقي ذا مصداقية وجدية، ولا زالت الحركة مستمرة في هذا المنهج السديد والرشيد، ولا أدل على ذلك أنها من حين لآخر تعيد النظر في مناهجها وتصوراتها الدعوية والتربوية، وأيضا في مواقفها الاجتماعية والسياسية، فهي بذلك حركة تجديدية، والتجديد ينبني على ممارسة وحرية النقد.

كما أن هذه الحركة تسمح بقدر كبير جدا -قد لا تجده عند أعرق الحركات الإسلامية- لأعضائها من ممارسة النقد عليها، ولمسؤوليها، ولا زلت أتذكر أن أحد الإخوة كتب مقالا إبان توحيد الرابطة والإصلاح والتجديد، انتقد فيه بعض القضايا للتوجه الجديد، فلما التقى بأستاذنا الريسوني وكنا يومها في لقاء، طفق أحد الإخوة يعرف أستاذنا الريسوني بصاحب المقال النقدي، فشكره الأستاذ وأثنى على كتابته، دون أن يسمع منه أي تبرم، بل إن بعض الإخوة كانوا يناقشونه في أفكاره فيرد عليهم، في جو من الحوار والنقاش، لأن القضايا التي تطرق إليها لم تكن من القضايا القطعية، وإنما هي وجهة نظر، من حقه أن يتبناها فكرا، لكن للحركة هيئاتها ومجالسها الاستشارية التي يتم فيها تداول الرأي، لذلك قرروا قاعدة مهمة ونفيسة: الفكر حر والقرار ملزم، وهذا ما عليه عقلاء الدنيا.

المهم عندي أن نقد الحركة دليل على الوضع الصحي والطبيعي لتجويد العمل الدعوي وتحسينه، وتربية الحس النقدي لأعضائها، حتى يكونوا فاعلين لا جامدين متلقين تابعين، هذه الممارسة النقدية تتم بأبعادها الآتية:

البعد الإيماني، وهو ما دل عليه قوله تعالى: “إنما المؤمنون إخوة.”، ودل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى…” (متفق عليه) فالإيمان هو الأس الذي تنبني عليه العلاقات داخل الحركة، بل يشمل جميع المؤمنين في العالم، وما فتئت حركة التوحيد تركز وتغرس الأخوة الإيمانية بين أعضائها، بكل مقتضايتها، من المحبة والتعاون والتآزر والتناصر والنصح…إلخ. لأن الممارس للنقد لا جرم أنه في حاجة ماسة إلى استحضار البعد الإيماني، وإلا تحول هذا النقد إلى نقض لعرى الأخوة، وقد يكون الناقد غير مأجور إذا كان نقده صادرا لغير وجه الله تعالى، لأن الأعمال بالنيات كما دل على ذلك الحديث الشريف.

البعد الأخلاقي والتربوي: حركة التوحيد، باعتبارها حركة إسلامية، والإسلام دعوة أخلاقية، بل جميع أحكامه مبنية على الأخلاق، من برامجها التركيز على الجانب الأخلاقي. وممارسة النقد تتطلب استحضار هذا البعد الأخلاقي، وعلى رأس ذلك وفي قمته، خلق الإنصاف والعدل، وذلك بممارسة النقد في توازن واعتدال، ودون شطط واعتساف، امتثالا لقوله تعالى: “وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى.” [الأنعام:152] وقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. [النساء:135] وقوله عز وجل: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.” [المائدة:8]، فالنقد في بعده الأخلاقي والقيمي هو شهادة ينبغي أن تكون بالقسط والعدل، وذلك بإبراز الحسن والتنويه به، وبيان الضعيف أو السقيم والتحذير منه، وقد يكون ما رآه الناقد ضعيفا وسقيما، وليس هو كذلك في الواقع، وإنما ظهر له ذلك في بادئ الرأي، فليس إذ ذاك من العدل والإنصاف التمسك برأيه، والإلحاح على نصرته والأخذ به، وإلا خرج عن الإنصاف والعدل.

والحمد لله أن آليات النظر في مواقف الحركة ونقدها وبرامجها، لا تسطر هكذا جزافا، وإنما يتخذ القرار في ذلك عبر مجالسها الشورية، التي تسبقها مجالس أخرى، وكل منها يمارس حق النقد، فلا ضير إذن من اتخاذ القرار المناسب المبني مسبقا على حرية ممارسة النقد.

البعد العلمي والتجديدي: هذا البعد حاضر عند حركة التوحيد والإصلاح، فهي حركة إصلاحية تجديدية، وحركة علمية دعوية، فالناظر في مجالسها التربوية، وكافة مجالسها الجهوية والشورية، سيجد هذا البعد العلمي والتجديدي حاضر في ممارسة النقد، ولا أدل على ذلك من أن الحركة تواكب باستمرار مستجدات الواقع، والتطور الحاصل حتى من داخل صفها، وعلى ضوء ذلك تضع برامجها، وترسم سياستها التربوية والدعوية والفكرية، كل ذلك –كما أكدت غير ما مرة- يتم في إطار حركية نقدية. ولا يخفى أن بحركة التوحيد والإصلاح قسم الإنتاج الفكري والعلمي، الذي يبرمج لندوات ولقاءات علمية، على ضوء ممارسة النقد البناء لكثير من القضايا الفكرية والمجتمعية، ومن ذلك الندوة الأخيرة بفاس حول (التصوف وسؤال الإصلاح).

البعد الحضاري: حركة التوحيد والإصلاح بالإضافة إلى ما ذكرت، حركة حضارية، بمعنى تنشد التحضر والرقي البشري والعمراني انطلاقا من عقيدة الأمة، ومن مقوماتها الوجودية والذاتية، فحينما تتبنى ممارسة النقد، فلا جرم أنها تنشد بذلك البعد الحضاري، لأن الخطوة الأولى في التحضر والرقي ممارسة حرية النقد البناء، فلذلك أغلب مجالسها يمارس النقد فيها بناء على الوعي الحضاري ومناشدة الرقي العمراني.

هذه بعض الأبعاد التي ظهرت لي من خلال حركة النقد ونقد الحركة في تصور حركة التوحيد والإصلاح، لعلنا اليوم في حاجة من بلورة تصور جديد نقدي بناء وفعال لإعادة النظر في كثير من قضايانا الدعوية والسياسية والاجتماعية، بغية تحقيق أمل منشود وهو خدمة الإسلام والمسلمين، وخدمة الوطن والمواطنين، ولا يكون ذلك إلا بحرية ممارسة النقد، لأنه إذا غابت حرية النقد حل محلها الاستبداد والتسلط، الذي يتولد منهما الفساد، والله لا يصلح عمل المفسدين. وأشكر الأخ العزيز عزيز هناوي آيت أوهني الذي كان سببا في كتابة هذه الأسطر، التي كانت قابعة في نفسي، فأخرجها من حيز الكمون إلى حيز الوجود. والحمد لله رب العالمين.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى