حتى يستوعب فضاء المسجد ناشئتنا – الحبيب عكي

أتذكر في مسجد قصرنا العتيق، وكنا نسميه بمسجد الموحدين، ليس لأن هذا اسمه ولكن لأن من شدة عتقه كان الإمام الخطيب يدعو في كل جمعة من على المنبر بنصرة جيوش المسلمين وعساكر الموحدين، كان مسجدنا هذا الذي يحكى أن الشيخ محمد بن العربي العلوي رحمه الله قد خطب فيه أيام زمان، كان كغيره من مساجد تلك الساعة يتوفر على العديد من المرافق المتكاملة، محراب واسع للصلاة، طبق أرضي وآخر فوقي، غرفة لتسخين ماء الوضوء في صحن نحاسي كبير أسود معلق فوق الموقد بسلسلة حديدية متينة تمتد إلى السقف، وكان الجميع يساهم في حطب وجريد التسخين بجلبه ما تيسر منه، غرف مظلمة للاستنجاء والطهارة والاستحمام، بهو مفتوح فسيح وعريض للوضوء في دلاء صغيرة فلزية عديدة، بئر عذبة لسقي الماء كثيرا ما كانت ملجأ الساكنة عند انقطاع الساقية وتعكر مائها بفعل حملات الأمطار، غرف للمرتبين من وافدي القصور المجاورة والبعيدة ممن يحفظون القرآن الكريم بنظام الرتبة العجيب، قاعة فسيحة بمثابة كتاب لتحفيظ القرآن الكريم والأدعية والأذكار والمتن النحوية والسيرة والأشعار للأطفال، وكانوا يحيون فيها بعض المناسبات الدينية كليالي المولد النبوي الشريف، مكتبة مملوءة بالمخطوطات يجد فيها الطلاب والباحثون والمحققون حاجتهم العلمية، بعض غرف الزوايا يرتادها المريدون من الطوائف المختلفة لتلاوة أورادهم على موقد محمر من الجمر وكؤوس معتقة من الشاي الأخضر المنعنع، سطح فسيح لقراءة الحزب القرآني في الصيف تسمع قراءته بعشرات القراء على مسافات ومسافات، وأصوات البراعم من القراء تزيده رقة وروعة وترصعه جمالا وبهاء، وفوق هذا كان المسجد ككل المساجد آنذاك يملك أوقافا كثيرة من حقول تكترى أراضيها وأشجار مثمرة بالتمر والزيتون تباع غلتها كل موسم بنظام السمسرة التي تشرف عليه نظارة الأوقاف.

وهكذا كان هذا المسجد كغيره من مساجد ذلك الزمان، بمثابة مؤسسة حية وحيوية ومحورية لعبت أدوارا تربوية واجتماعية وإشعاعية بارزة حتى أن بعض ساكنة القصور وضمنهم قصرنا وإلى يومنا هذا لازال يلقبهم الكثيرون من شدة ارتباطهم بعمقهم ألمساجدي وتاريخه التربوي والإشعاعي  وما أكسبهم من الصدق والأمانة وطيب المعاشرة والأخلاق بأولياء الله.

أتذكر هذا في هذا الحين الذي تسود فيه كالفطر بعض المساجد بالاسم عبارة عن مآرب للصلاة أو حتى منازل في طور البناء مسبلة في سبيل الله بأسفلها وأعلاها وليس لها من المرافق اللازمة للمسجد شيء، أو حتى في هذا الحين الذي تسود فيه العديد والعديد من المساجد الفاخرة ذات المرافق الواسعة والأنيقة ولكنها مفرغة من كل شيء أو تكاد إلا الصلاة في وقتها والحمد لله على كل حال، والغريب أنه في الوقت الذي يعتاد الناس فيه هذه المساجد على هذه الحالة من الاختزال الشديد، فإن هناك حالة من الهجران لها خاصة من طرف الناشئة والشباب الذين لا تستهويهم ولا تستقطبهم كغيرها من الفضاءات الترفيهية مثلا، وربما يكون ذلك رد فعل على كونها خالية من أنشطة الشباب، أو ربما وعيا عميقا منهم بما يفرض عليها من حالة التضييق على أدوارها ورسالتها التربوية والاجتماعية والإشعاعية، وكيفما كان الحال فالناشئة والشباب في كثير منهم لم يعودوا يجدون في هذه المساجد مرافق تستوعبهم وأنشطة تلبي حاجياتهم وتعطشهم للأمن الروحي والفكري والثقافي والفني والرياضي..، فلا كُتاب ولا كِتاب ولا مكتبة لحفظ القرآن وتنمية العرفان، ولا حلق للفقه والسيرة واللغة والمناظرة، ولا مسابقات وحملات ولا رحلات ودوريات..، في الوقت الذي تسعى فيه كل المؤسسات إلى الانفتاح على المحيط والفاعلين والشركاء وعلى رأسهم النشء والشباب.

أعتقد أن للأوقاف من الوقف والأوقاف ما يكفيها لتدبير أوقافها وزيادة، لا من حيث المرافق والبنايات ولا من حيث الموارد البشرية وفقهائها ولا من حيث التسيير والتدبير والسياسات، ولكن علينا أن نحدد معايير واضحة لبناء المساجد ومرافقها ونحرص على تجسيدها على أرض الواقع حسب المواقع وبالموازاة مع تدبير تسييرها وسياستها، مساجد للصلاة نعم وعلى الرحب والسعة وتلك أولوية الأولويات، ولكن كونوا على يقين أن هذه المساجد  لن تستوعب طفولتنا وشبابنا ومستقبل أجيالنا في غياب سياسة تدبيرية للمسجد لا يجدون فيها ذواتهم: كتاب معاصر لتحفيظ القرآن والبحث في علومه بالوسائل والتقنيات الحديثة، تعلم الكتابة والقراءة  والأخلاق والاندماج الاجتماعي للأطفال بالطرق والوسائل التربوية الحديثة، وفي ذلك تشجيع لهم على حب المسجد وأهله وفلسفته وعلى التعليم الأولي وكلنا يعلم عائده التربوي على التعليم الابتدائي على الأقل، مكتبة تفاعلية متعددة الوسائط يجد فيها الشباب ضالته في الترفيه وطلب العلم والمناظرة، ويتشربون فيها هموم الأمة والوطن والتضامن مع القضايا الكونية العادلة، ما يمكن أن يحصنوا به أنفسهم ضد السائد من أفكار العنف والتطرف والإرهاب، حملات في نظافة المسجد والحي..في الاهتمام بالبيئة والتشجير والمساحات الخضراء..في العمل الاجتماعي وتفقد المحتاجين والمحتجات من ساكنة الحي..مسابقات في حفظ وتجويد القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف..أمسيات فنية لإحياء المناسبات الدينية والوطنية..دوريات رياضية ورحلات استكشافية..، على غرار طفولة وشباب العديد من الجمعيات والمؤسسات، ألم يكن رسول الله (ص) يصلي بالناس وهو يحمل أمامة بنت زينب والحسن والحسين يلعبون حوله، وإذا امتطيا ظهره الشريف أطال في سجوده حتى يستمتعوا بمركبتهم؟ ألم يكن يخفف في الصلاة إذا سمع بكاء طفل رحمة بأمه ولم يكن يأمرها بالخروج أو التأخر عن المسجد؟ ألم يكن السلف يضعون عودا من الحلوى بباب المسجد ينال منه من صلى في المسجد من الأطفال؟ ألم يكونوا يسمحون بالطفل المكلف والشاب اليافع أن يؤموهم في صلاة التراويح..؟  إلى غير ذلك مما لا تعرف مساجدنا اليوم منه في الغالب إلا نهر الأطفال وتكرهيهم في المسجد وطردهم منه،حتى لو كانوا مكلفين وغير مزعجين.

وشرف كبير أن تقود المساجد والقيمون عليها والفاعلون والشركاء كل هذا حتى تعيد للمساجد أدوارها المجتمعية الحقيقية وتجسد بحق أنها المنطلق الأساسي للنهضة والإقلاع ..وأنها على حد قولهم:”محراب للصلاة وجامعة ثقافية وجمعية خيرية وآصرة أخوية..وأول ما ينبغي الاعتماد عليه في الاستثمار في الإنسان وبناء الأجيال.

وفي الختام طبعا،على الجميع أن يساهم ويشارك في هذا..الأئمة والفقهاء..الأساتذة والعلماء..الوعاظ والخطباء..الأسرة والآباء..المحدثين والقضاة..الجمعيات المتخصصة والفاعلين والشركاء..ولنا خير مثال في المشروع الناجح لتنظيم دروس محو الأمية في المساجد(حوالي 3 مليون مستفيدة). فلماذا لا يكون محفزا على التعاطي مع غيره من المشاريع المجتمعية والتنموية الأخرى، وكلنا يشكو من تخلف واضطراب الأحوال في المجتمع، وتراجع القيم والأخلاق في صفوف الأجيال، وتفشي العنف والتطرف والهجرة القسرية ومآسيها.. ألا يستحق كل هذا تجديد المشروع الديني..والخطاب الديني..والفضاء الديني.. إلا تفعلوا تستفحل كل الظواهر السلبية في المجتمع، أو نأتي معالجتها من غير مآتيها.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى