تقديم وثيقة الاستقلال – عبد الحق لمهى
مما لا شك فيه أن لكل أمة أحداثا تاريخية خالدة تشكل ملحمة كبرى بالنسبة إليها، وحينما يقف كل جيل من أجيالها على تلكم الاحداث فإنما لاستخلاص العبر والدروس المستفادة منها قصد الاسترشاد والعمل بها في مسيرة الحياة المتجددة، إذ أن الاحداث التاريخية عموما بنيت على قيم ومبادئ منها ما يمكن استصحابه على مر الأجيال، عملا بمبدأ التراكم الذي تبنى على أساسه كل حضارة راشدة قوية.
ومن الأعياد الوطنية التي يحتفل بها المغاربة قاطبة ومعهم كل الاحرار كل سنة، وتعد ذكرى من الذكريات الوطنية الهامة والغالية على نفس الجميع. إنها ذكرى تقديم وثيقة الاستقلال.
وفي الصدد إليكم نص الوثيقة التاريخية وما تضمنته من مطالب:
نص وثيقة الاستقلال
(11 يناير 1944)
الحمد لله إن حزب الاستقلال الذي يضم أعضاء الحزب الوطني السابق وشخصيات حرة: حيث إن الدولة المغربية تمتعت دائما بحريتها وسيادتها الوطنية وحافظت على استقلالها طيلة ثلاثة عشر قرنا إلى أن فرض عليها نظام الحماية في ظروف خاصة وحيث أن الغاية من هذا النظام والمبرر لوجوده هما إدخال الإصلاحات التي يحتاج إليها المغرب في ميادين الإدارة والعدلية والثقافة والاقتصاد والمالية والعسكرية دون أن يمس ذلك بسيادة الشعب المغربي التاريخية ونفوذ جلالة الملك وحيث أن سلطات الحماية بدلت هذا النظام بنظام مبني على الحكم المباشر والاستبداد لفائدة الجالية الفرنسية ومنها جيش من الموظفين لا يتوقف المغرب إلا على جزء يسير منه وأنها لم تحاول التوفيق بين مصالح مختلف العناصر في البلاد وحيث أن الجالية الفرنسية توصلت بهذا النظام إلى الاستحواذ على مقاليد الحكم واحتكرت خيرات البلاد دون أصحابها وحيث أن هذا النظام حاول بشتى الوسائل تحطيم الوحدة المغربية ومنع المغاربة من المشاركة الفعلية في تسيير شؤون بلادهم ومنعهم من كل حرية خاصة أو عامة وحيث أن الظروف التي يجتازها العالم اليوم هي غير الظروف التي أسست فيها الحماية وحيث أن المغرب شارك مشاركة فعالة في الحروب العالمية بجانب الحلفاء وقام رجاله أخيرا بأعمال أثارت إعجاب الجميع في فرنسا وتونس وصقلية وكرسيكا وإيطاليا، وينتظر منهم مشاركة أوسع في ميادين أخرى وبالأخص لمساعدة فرنسا على تحريرها وحيث أن الحلفاء الذين يريقون دماءهم في سبيل الحرية اعترفوا في وثيقة الأطلنتي بحق الشعوب في حكم نفسها بنفسها، وأعلنوا أخيرا في مؤتمر طهران سخطهم على المذهب الذي بمقتضاه يزعم القوي حق الاستيلاء على الضعيف وحيث أن الحلفاء أظهروا في شتى المناسبات عطفهم على الشعوب الإسلامية ومنحوا الاستقلال لشعوب منها من هو دون شعبنا في ماضيه وحاضره وحيث أن الأمة المغربية التي تكون وحدة متناسقة الأجزاء تشعر بما لها من الحقوق وما عليها من واجبات داخل البلاد وخارجها تحت رعاية ملكها المحبوب وتقدر حق قدرها الحريات الديمقراطية التي يوافق جوهرها مبادئ ديننا الحنيف والتي كانت الأساس في وضع نظام الحكم بالبلاد الإسلامية الشقيقة.
يقرر ما يأتي:
أولاً: أن يطالب باستقلال المغرب ووحدة ترابه تحت ظل صاحب الجلالة ملك البلاد المفدى سيدنا محمد بن يوسف نصره الله وأيده.
ثانياً: أن يلتمس من جلالته السعي لدى الدول التي يهمها الأمر الاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه، ولوضع اتفاقيات تحدد ضمن السيادة المغربية ما للأجانب من مصالح مشروعة.
ثالثاً: أن يطلب نظام المغرب للدول الموافقة على وثيقة الأطلنتي والمشاركة في مؤتمر الصلح.
رابعاً: أن يلتمس من جلالته أن يشمل برعايته حركة الإصلاح الذي يتوقف عليه المغرب في داخله، ويكل لنظره السديد إحداث نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية في الشرق تحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب المغربي وسائر طبقاته وتحدد فيه واجبات الجميع، والسلام.
انطلاقا من نص الوثيقة، يمكن استخلاص مجموعة من الدروس والعبر:
ـ تقديم وثيقة الاستقلال تجسيد للحرية باعتبارها قيمة إنسانية دعا إليها الإسلام وتعارفت عليها الإنسانية في مختلف مواثيقها. الحرية بما هي رفض للظلم والاستبداد وسلب المغاربة حريتهم وارادتهم في تدبير شؤون بلدهم. وليس معنى ذلك رفض الاخر مطلقا أو رفض التعايش الذي يعد قيمة إسلامية أصيلة.
ـ من دلالات الوثيقة ـ والتي كانت سببا في نجاح مطالبهاـ الوحدة الوطنية بين مختلف القوى الحية للبلاد، بقيادة ملك البلاد محمد الخامس ـ رحمه الله ـ فقد تمكن الفرقاء من مختلف المكونات الوطنية التوصل إلى هدفهم من خلال الوحدة، التي تعد قيمة من القيم الإسلامية الاصيلة التي دعا إليها الإسلام ورغب فيها. وتأسيسا على هذا يكون من المهم ـ في سياق تنمية الوطن ـ الحرص على هذه القيمة الكبرى المؤطرة لكل المجهودات التي تروم تحقيق التنمية في كل المجالات المختلفة السياسية والاقتصادية…، فلا تنمية ـ في نظري دون وحدة، بين مكونات الامة ووحدة من معانيها التنوع والاختلاف.
ـ الترابط القوي المتين بين العرش والشعب وما كان ويكون له من أثر في تحقيق الاستقلال والازدهار، ومن هنا فأي محاولة لإضعاف هذا الرباط الشرعي الميتن، ينبغي الحذر منها لما لها من أثار وخيمة على مستقبل الوطن والدين.
ـ تضمن المطلب الرابع من مطالب الوثيقة الدعوة إلى إقامة الدولة على مبدإالشورى،ولا شك أن هذا المبدأ حث عليه القرآن ووجه نبيه ـ وهو النبي المرسل المعصوم ـ إلى ضرورة العمل به من خلال مشاورة الصحابة الكرام، فكيف لا يحرص عليه الناس وهو ليسوا في منزلة النبي عليه السلام. إن الشورى سبيل تقوية البناء الداخلي للامة والطريق إلى نشر الثقة بين قائد الامة والرعية.
ـ وشملت مطالب الوثيقة الحديث عن الحقوق والوجبات، فهذه متلازمة مهمة. فلا يتصور بناء سليم للأوطان إلا من خلالها، وبالتالي تحرض التشريعات والقوانين على هذه الثنائية الهامة من خلال الجمع ثقافة الحقوق والواجبات، وينبغي ترسيخ ثقافة أداء الواجبات والمطالبة بالحقوق لكي يثمر ذلك تنمية حقيقة لوطننا الحبيب.
وأخيرا، إن الاحتفاء بالأعياد الوطنية ومنها تقديم وثيقة الاستقلال يعد مؤشرا كبيرا وقويا على مستوى عال من المواطنة الصادقة والوطنية الحقة مما ينبغي ـ بدون شك ـ أن يكون عليه جميع أبناء هذا الوطن الحبيب.