تاريخ الاحتفال بذكرى المولد في المغرب

هناك شبه إجماع على أن نشأة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في المغرب، كانت مع أمير سبتة أبي العباس العزفي السبتي(ت 633) الذي ألف كتاب ” الدر المنظم في مولد النبي المعظم” وأكمله من بعده ابنه أبو القاسم العزفي(ت 677)، وفي هذا الكتاب إشارة واضحة إلى أن العزفيين أول من احتفل بهذه الذكرى. وكان من دواعي تأليف هذا الكتاب، ظهور الحاجة إلى الاحتفال بالمولد النبوي بعد أن شاع لدى بعض المغاربة والأندلسيين مشاركتهم جيرانهم المسيحيين الاحتفال بأعيادهم، كعيد النيروز يوم فاتح يناير، والمهرجان أو العنصرة يوم 24 يونيو، وميلاد المسيح يوم 25 دجنبر، وقد أقر العزفي ببدعية هذا الاحتفال، لأنه لا عهد للسلف الصالح رضوان الله عليهم به، لكنه أدخله في البدع المستحسنة، مستندا إلى تعليق الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على تراويح رمضان بقوله: ” نعمت البدعة هذه” (1)  وقد استطاعت حملة أبي العباس العزفي ” أن تؤتي ثمارها، فتحقق له هدفه من إقلاع مسلمي الأندلس والمغرب عن الاحتفال بعيد الميلاد المسيحي، وإن لم تقض تماما على بعض الأعياد الأخرى التي لم يكن لها طابع ديني واضح”.(2)

وقد تأكد حضور هذا النقاش في مصادر متنوعة، أخص منها بالذكر، كتب النوازل والفتاوي التي تحوي عشرات الإجابات، والتي أسوق منها ـ على سبيل المثال لا الحصرـ ما أورده الونشريسي(3) في معياره يقول: ” وسئل الولي العارف بالطريقة والحقيقة أبو عبد الله بن عباد رحمه الله ونفع به، عما يقع في مولد النبي صلى الله عليه وسلم من وقود الشمع وغير ذلك لأجل الفرح والسرور بمولده عليه السلام.

فأجاب: الذي يظهر أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكل ما يقتضيه الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، من إيقاد الشمع وإمتاع البصر، وتنزه السمع والنظر، والتزين بما حسن من الثياب، وركوب فاره الدواب أمر مباح لا ينكر، قياسا على غيره من أوقات الفرح، والحكم بأن هذه الأشياء لا تسلم من بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود، وارتفع فيه علم العهود، وتقشع بسببه ظلام الكفر والجحود، ينكر على قائله، لأنه مقت وجحود. وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان، أمر مستثقل تشمئز منه النفوس السليمة وترده الآراء المستقيمة ” 

كما أورد الونشريسي(4) كلاما للشيخ ابن مرزوق(ت781)، ارتأينا سرده في هذا السياق للوقوف على صورة من صور الحِجاج الذي واكب مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي في الغرب الإسلامي.  وهو في موضوع: إيثار ليلة المولد على ليلة القدر.

قال ابن مرزوق: ” في جنا الجنتين في شرف الليلتين “: سمعت شيخنا الإمام أبا موسى بن الإمام رحمة الله عليه وغيره من مشيخة المغرب، يحدثون فيما أحدث في ليالي المولد في المغرب، وما وضعه العزفي في ذلك، واختاره وتبعه في ذلك ولده الفقيه أبو القاسم وهما عن الأيمة، فاستصوبوه واستحسنوا ما قصده فيها والقيام بها، وقد كان نقل عن بعض علماء المغرب إنكاره، والأظهر في ذلك عندي، ما قاله بعض الفضلاء من علماء المغرب أيضا، وقد وقع الكلام في ذلك فقال ما معناه: لا شك أن المسلك الذي سلكه العزفي مسلك حسن، إلا أن المستعمل في هذه الليلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والقيام بإحياء سنته، ومعونة آله، ومساهمتهم وتعظيم حرمتهم، والاستكثار من الصدقة وأعمال البر، وإغاثة الملهوف، وفك العاني، ونصر المظلوم، هو أفضل مما سوى ذلك مما أحدث، إذا لا يخلو من مزاحم في النية، أو مفسد للعمل، أو دخول الشهوة، وطريق الحق معروف، ولا أفضل في هذه الليلة مما ذكرناه من أعمال البر والتكثير من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليحظى المستكثر منها ببعض ما ورد في فضلها.

وتجمع المصادر على أن أول ملك مغربي احتفل بالمولد النبوي هو السلطان الموحدي عمر المرتضى المتوفى عام 665 هـ، وقد كان لهذا السلطان اهتمام زائد وحرص شديد على إقامة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، حيث أمر بتوقيف العمل فيه، لتمكين الناس من المشاركة في تظاهرات هذا العيد، وليعبروا عن مدى حبهم وتفانيهم في النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر من تغنوا بمراسيم هذا الاحتفال الشاعر مالك بن المرحل وذلك بقوله:

                    فحق لنــا أن نعتنـي بــولاده           ونجعل ذلك اليوم خير المواسم

                    وأن نصل الأرحام فيه تقربا           ونغدو له من مفطرين وصائـم

                     ونترك الشغل إلا بطـــــاعة           وما ليس فيـه من مــلام ولائــم

وسيتكرس الاحتفال بالمولد النبوي بشكل رسمي مع المرينيين، الذين أولوا هذه المحطة السنوية اهتماما بالغا سيتوج بصدور مرسوم ملكي سنة 691هـ يقضي بجعل المولد النبوي من الأعياد الرسمية. ويحدثنا العلامة ابن مرزوق، الذي خص أبا الحسن المريني بمؤلف جمع فيه شمائله وأخلاقه ومناقبه سماه “المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن”(5) بأن أبا الحسن المريني دأب على إقامة ليلة المولد حضرا وسفرا، ولا يشغله عن إقامته شاغل، لدرجة أنه كان يعاقب كل من يتخلف عن الاحتفال، في أي مكان كان به. وأنه كان يستعد لها بما لذ من ألوان المطاعم والحلويات، وإحضار أنواع الطيب والبخور، وإعداد المجالس بما يلزم من الزينة والتأنق. حتى إذا حلت الليلة، وفرغ السلطان من أداء صلاة المغرب ونافلتها، حضر إلى مكان الاحتفال، واستدعى الناس للجلوس حسب مراتبهم وطبقاتهم، وبعد تناول ما لذ من أنواع الطعام… استوت المجالس وساد الصمت لسماع حصة القرآن الكريم، ثم تأتي حصة الإنشاد، ثم نوبة قصائد المديح والتهاني بليلة المولد الكريم … وبعد هذا تسرد المعجزات النبوية وتكثر الصلاة على الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي من أعاجيب ما يرى في بلاد المغرب، فإذا قضيت صلاة الصبح تقدم ألوان الطعام المختصة بهذا الوقت .

كما أن أبا عنان وأبا سالم و أبا فارس الأول أبناء أبي الحسن ساروا بسيرة أبيهم في هذا الصدد، حيث أدخلوا تحسينات بديعة على ليالي المولد زادت من رونقها وجلالها، وكان أبو عنان قد عمم هذا الاحتفال وجعله في سلك رسوم الدولة،  وكان يقدم ضمن صلة تلك الليلة دينارا ذهبيا من وزن مائة دينار يَسُكه بمراكش.

أما في عهد السعديين، فقد حظي الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بصور جليلة من التعظيم الكبير والاهتمام البالغ اللذين بلغا أوجهما مع أحمد المنصور الذهبي الذي حرص على الإشراف على الاحتفال بهذا اليوم في قصره البديع. وقد خلد الفشتالي(6) وصفا مستفيضا للطريقة التي كان يتم بها هذا الاحتفال، بقوله: ” كان ترتيب المنصور فى الاحتفال بالمولد النبوى الكريم أنه إذا طلعت طلائع شهر ربيع الأول، صرف الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية والمؤذنين النعارين فى الأسحار، فيأتون من كل جهة، ويحشرون من سائر حواضر المغرب” … ” ثم يأمر الشماعين بتطريز الشموع وإتقان صنعتها، فيتبارى فى ذلك مهرة الشماعين… فيصوغون أنواعا من الشمع التى تحير النواظر ولا تذبل زهورها النواضر. فإذا كان ليلة المولد، تهيأ لحملها وزفاف كواعبها الصحافون المحترفون بحمل خدور العرائس عند الزفاف، فيتزينون لذلك ويكونون فى أجمل شارة وأجمل منظر”… “ويجتمع الناس من أطراف المدينة كلها لرؤيتها، فيمكثون إلى حين يسكن حر الظهيرة، وتجنح الشمس للغروب، فيخرجون بها على رؤوسهم كالعذارى يرفلن فى حلل الحسن، وهى عدد كثير كالنحل، فيتسابق الناس لرؤيتها وتمتد لها الأعناق وتبرز ذوات الخدور، ويتبعها الأطبال والأبواق، وأصحاب المعازف والملاهى، حتى تستوي على منصات معدة لها بالإيوان الشريف فتصف هنالك”… “فإذا طلع الفجر، خرج السلطان فصلى بالناس. وقعد على أريكته وعليه حلة البياض شعار الدولة، وأمامه تلك الشموع المختلفة الألوان، من بيض كالدمى، وحمر جليت فى ملابس أرجوان، وخضر سندسية، واستحضر من أنواع الحسك، والمباخر ما يلهي المحزون ويدهش الناظر، ثم دخل الناس أفواجا على طبقاتهم، فإذا استقر بهم المجلس تقدم الواعظ فسرد جملة فى فضائل النبى صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، وذكر مولده ورضاعه، وما وقع فى ذلك باختصار”… “فإذا فرغ اندفع القوم فى الأشعار المولديات، فإذا فرغوا تقدم أهل الذكر المزمزمون بكلام الششترى وأشعار الصوفية، ويتخلل ذلك نوبة المنشدين للبيتين، فإذا فرغوا من ذلك كله، قام شعراء الدولة فيتقدم قاضى الجماعة الشاطبى: بلبل منابر الجُمَع والأعياد فينشد قصيدة يفتتحها بالتغزل والنسيب، فإذا تم تخلص لمدح النبى صلى الله عليه وسلم ، ثم يختم بمدح المنصور والدعاء له ولولى عهده، فإذا قضى نشيده تقدم الإمام المفتى المولى أبو مالك، عبد الواحد الشريف فينشد قصيدته على ذلك المنوال، فإذا فرغ تلاه الوزير أبو الحسن علي بن منصور الشيظمى ثم تلاه الكاتب أبو فارس عبد العزيز الفشتالى ويليه الكاتب محمد بن على الفشتالى ويليه الأديب محمد بن على الهوزالى النابغة، ويليه الأديب الفقيه أبو الحسن على بن أحمد المسفيوى”…”فإذا طوى بساط القصائد، نُشر خوان الأطعمة والموائد، فيبدأ بالأعيان على مراتبهم، ثم يؤذن للمساكين فيدخلون جملة، فإذا انقضت أيام المولد الشريف برزت صلات الشعراء على أقدارهم، هكذا كان دأبه فى جميع الموالد، ولا يحصى ما يفرغ فيه من أنواع الإحسان على الناس”.

أما زمن الدولة العلوية، فيصف ابن زيدان(7) طريقة احتفال بعض ملوكهم بهذه المناسبة فيقول: ” تقيم الجلالة السلطانية حفلات شائعة ومهرجانات فائقة في ليلة عيد المولد، وستة أيام ابتداء من يوم العيد… ومما جرت العادة بإنشاده في تلك الليلة: البردة والهمزية للبوصيري، يبدأ بالبردة ثم الهمزية ويتخلل ما بينهما بالألحان والتوشيحات… وبعد ختم الأمداح النبوية يتلى ما وقع اختيار السلطان عليه من القصائد الواردة على حضرته من شعراء دولته من سائر أصقاع إيالته في مدح جنابه الكريم”. كما تميز هذا الحفل الديني عندهم أيضا بقراءة كتاب الشفا للقاضي عياض وصحيح الإمام البخاري.

هذه إذن عملية مسح سريعة لمظاهر الاحتفال بهذه الذكرى الجليلة، وقد اختصرنا في بسط مادتها تيسيرا لعرضها ضمن هذا الملف، وقد فصلنا في المسألة في كتابنا الذي أعددناه للنشر(8)، والذي نظن أنه سيمكن المهتمين إن شاء الله من الإحاطة بكل ما يتعلق بهذه الظاهرة.

********

المراجع :

[1] ـ  أخرجه الإمام مالك في الموطأ

 [2] ـ المولد النبوي والمولديات ص 125

 [3] ـ أبو العباس أحمد بن يحي الونشريسي: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب ـ نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمملكة المغربية ـ خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف الدكتور محمد حجي ـ 1401/ 1981 11 ص 278 / 279

 [4] ـ  نفسه: ج 11 ص280 / 283

[5] ـ ابن مرزوق، المسند الصحيح في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، تحقيق ماريا خ. بيغيرا، الجزائر، 1981.

 [6] ـ  أبو فارس عبد العزيز الفشتالي:مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا دراسة وتحقيق: د. عبد الكريم كريم. ص: 236-238 ـ مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافية ـ الرباط 1972

[7] ـ ابن زيدان: العز والصولة، ج 1، ص.  172. و173

 [8[ ـ المديح النبوي في الغرب الإسلامي ألوان وأعلام

ذ. مولاي أحمد صبير الإدريسي

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى