بين الفعل ورد الفعل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم – مليكة شهيبي

من المعاني الجميلة التي استوقفتني أثناء قراءة كتاب ”العادات السبع للناس الأكثر فعالية ‘‘لاستيفن آر كوفي فكرة: ”بين الفعل ورد الفعل هناك مساحة من الفراغ تكمن فيها شخصيتنا واختياراتنا وقدراتنا على اختيار الاستجابة …”

والمتأمل في عمق هذا المعنى يفهم جيدا تلك الآفات والمشاكل والمواقف التي قد يتورط فيها المرء بل قد تتورط فيها المؤسسات والدول حينما يقلّصون تلك المساحة ولا يعطونها حقّها وهم يتخذون قرارات مليميترية كانت أو مصيرية، قد يكون وبالُها  أحيانا كارثياً على الأفراد والأمم.

قد أتفهم أن يكون الإنسان مجبرا على عيش ظروف معينة خارج استطاعته، لكن هو حرّ في اختيار ردّة فعله على هذه الظروف انطلاقا من التّقبل الى التذمر الى الثورة حسب المساحة التي سيمارس فيها اختياراته والتي تظهر فيها شخصيته .

 وفي تلك الجزيئة التي تمثل المساحة بين ذاك الظرف وردّة فعله عليه، هي التي تجعل منه إنساناً عاقلاً أو متهوراً أو حكيماً أو حليماً أو أحمقاً أو سافلاً: فشخصية المرء تحددها ردود أفعاه تجاه المواقف التي يعيشها وكلّما كان الإنسان أكثر نضجاً وأكثر رسالية وأكثر حكمة، أكيد سيعطي فرصة لتلك المساحة لكي تكبر وتتسع حتى يستطيع أن يبني ردة فعله ويستحضر مبادئه وقيمه واختياراته، بعدها يصدر ردة فعله.

قد يقول قائل: وهل سأنتظر كل هذا الوقت لأقوم بردة فعل؟  إذن لا داعي منها أصلا خاصة إذا كان الموقفُ لحظةَ استفزاز أو ثورة غضب تتطلب انفجارا مباشرا وردّاً عنيفا لحظيّاً لتهدأ النفس ويسكن الغضب.

لقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، بشكل عجيب استيعابا وممارسة، لم يستطع حتى الصحابة رضوان الله عليه استيعابها في عدة مواقف.  فكُتُبُ سيرته صلى الله عليه وسلم مليئة بمواقفَ شتى تنمُّ عن خُلق رفيع وعن شخصية فذّة تشهد بتربية وتوجيه ربانيين. ولِمَ لا، وهو خير خلق الله خَلقا وخُلقا.

لقد روى أنس بن مالك رضى عنه، قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب نجرانى غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس رضى الله عنه: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثَّرتْ بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مُرْ لى من مال الله الذى عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أَمَر له بعطاء) رواه البخاري.

والمتأمل في هذه الرواية يرى أن الفعلَ همجيٌّ عروبيٌّ خشن، لكن ردّة الفعل ابتسامة منه صلى الله عليه وسلم، لطَّف بها  الجوّ وهدّأ  بها النّفس، المساحة بين فعل الأعرابي وردة فعل الرسول كانت كبيرة في المساحة صغيرة في الزمن لا يستطيع المرء العادي استيعابها .. فتركيزه قبل ردة الفعل كان على الأعرابي، على هَمِّ استيعابه وتحبيب الاسلام لقلبه، لأنه حديث العهد بالإسلام؛ استحضر في تلك المساحة، الرسالية التي بعثه الله بها والدعوة التي عليه تبليغها، فهانت أمامه تلك الحركة الخشنة العنيفة لأن همَّه كان أكبر من ذلك وهدفه أعظم من الانتصار للذات.

ويتجسد هذا المعنى كذلك في موقفه صلى الله عليه وسلم من ذاك الفتى الذي جاءه صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا وقد أوشك الصحابة أن يهاجموه، لماذا؟ بكل بساطة لأنهم لم يعطوا لتلك المساحة الفاصلة بين الفعل وردة الفعل ما تستحق من التفكير، ولم يتركوا مُهلة بين المثير والاستجابة – بلغة العلوم – حتى تكون الاستجابة من التعقّل بما يليق بالموقف المستفز الذي حضروه، فكان رد فعلهم عاطفيا تلقائيا غابت فيه الحكمة والتؤدة والرسالية المفروض تواجدها عند من كان عنده همّ نشر الدعوة الى الله.

لكنه صلى الله عليه وسلم بالمقابل نجد شخصيته واختياراته تجلّت واضحة، صريحة، حكيمة في ردة فعله، لأنه أعطى لتلك المساحة ما تستحق من أهمية: ماذا لو نهر ذاك الشاب؟ ماذا لو عذبه؟ ماذا لو تصرف تصرفا يحطّ من كرامة المستأذِن وعنفوان شبابه؟ المساحة التي نتحدث عنها تمرّ فيها عشرات السيناريوهات ويختار الإنسان منها ما يخرج من ذاك الموقف بأقل الخسائر للطرفين. هكذا تصرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه رسالة واضحة للآباء والمربين والدعاة وكل من له علاقة مع الشباب ودعوة صريحة لضرورة توسيع تلك المسافة والتفكير في الموقف وتسجيل رد الفعل بما يحفظ لهم كيانهم وكينونتهم ويناسب رغباتهم المشروعة بعيدا عن كل سلطوية وأستاذية مستعلية.

ويستحضرني كذلك موقفه صلى الله عليه وسلم يوم أدمى أهلُ الطائف قدميه وسلطوا عليه أطفالهم وسفهاءهم ليرموه بالحجارة؛ وجاءه ملك الجبال يستأذنه ويقول له: ” لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين” لكنه رد عليه بكل حكمة وتطلّع: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا.”  ولو كان غيره لانتصر لذاته، لكنه رسول الله  الذي قال فيه الله تعالى: ” إنك لعلى خلق عظيم “

والمواقف كثيرة، والمثيرات التي تعرض لها صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث وعشرين سنة من الدعوة إلى الإسلام، لا تعدّ ولا تحصى، ولكن استجابته لهذه المثيرات وردود أفعاله عن تلك الأفعال كانت من الحكمة بمكان بحيث لا تترك وراءها أعطاباً نفسيةً ولا أضراراً ماديةً بل تُنتج نفوساً راضيةً مطمئنةً.

” لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا” الاحزاب 21

تذكرنا هذه الآية كلما قرأناها أو طرقت مسامعنا، أن مجالات الاقتداء والتأسي من الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً، يجد المسلم فيها قدوته في كل تفاصيل الحياة، انطلاقا من إماطة الأذى عن الطريق إلى استراتيجيات إدارة الدولة وميادين المعركة.

ولو أننا اقتدينا به في هذه الجزئية فقط من حياته صلى الله عليه وسلم ( التريث قبل رد الفعل وتوسيع المساحة بين الفعل وردة الفعل )، لكفت بعض الأزواج ويلات التشنجات نتيجة ردود الأفعال التي يحكمها الانتصار للذات عوض استحضار هدف المحافظة على المودة والرحمة، ولكفت بعض الآباء ويلات التوترات التي يعيشونها مع الأبناء جرّاء عدم إعطاء هذه المساحة ما تستحق من التفكير واتخاذ القرار الصائب أثناء النقاش معهم، ولكفت الأسر والعائلات ويلات المشاحنات والتفرقة وقطع الرحم، ولكفت المؤسسات والدول ردود أفعال غير مدروسة ولا حكيمة بسبب عدم إتاحة الفرصة لأنفسهم دراسة السيناريوهات المترتبة عن كل قرار لحد شنّ الحروب والملاسنات السياسية المؤدية لمزيد من التمزق والتشرذم.

ولا أقصد هنا أن نقف ونفكر وندرس كل قرار على حدة، ذاك وضع آخر له آلياته وظروفه وحيثياته، فالمثيرات التي أتحدث عنها في هذا المقام هي تلك المواقف التي غالبا ما تكون كطوارئ ونوازل مباغتة، والتي ردود أفعالنا تجاهها تكون بالارتجالية التي تناسب فُجاءة الموقف، خاصة إذا كان موقفا مثيرا ومستفزا للنفس والمشاعر، لكنني أومن بأن الانسان له القدرة على جعل عملية التفكير – عند تعرضه لمثير و قبل رد الفعل-  ملكة، هذه الملكة التي أكيد تُصقل وتُنمّى وتتطور كلّما راجع الإنسان ردود أفعاله السابقة التي مرّت معه في حياته، أو تلك التي عاشها أصدقاؤه أو التي صادفها في حياته في العمل والشارع أو تلك التي قد يكون رآها حتى في المسلسلات أو قرأها في الروايات.        

كل تلك المواقف قد تُهدي المرء تراكما من التجارب ولو لم يكن هو من عاشها، شرط أن يكون تطلّع  فيها بوعي وسأل نفسه كيف سيكون رد فعله لو وضع في نفس تلك الموقف.

إن الأمر عبارة عن ملكة وعادة، يكتسبها الانسان بوضع ” قف pause” في كل مواقف الحياة التي تعترضه والتي تتطلب منه رد فعل آني ومباشر. فضبط النفس من المهارات الراقية التي يجب علينا ان نتعلمها ويكفي أن نسأل أنفسنا في كل حيرة من أمرنا تجاه أي فعل: ماذا كان سيكون رد فعل رسول الله لو كان في كذا موقف؟ أكيد ستخرج من دائرة الانتصار لنفسك وتفكر بمنطق أكثر حكمة وتعقّلا لأنك فقط سمحت لرسول الله أن يتجسد في تلك المساحة. فمهما بدت لك أن لك القدرة على رد الفعل والانتصار للذات، ثق أن هناك مسافة هائلة بين ما يمكنك فعله وبين ما يجب عليك فعله، فبين ما يمكنك فعله وما تريد فعله، مساحة حكمة وتعقل وفطنة تتحدد فيها مبادئك وشخصيتك وحكمتك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى