بولوز يكتب: السياسة دين، والمشاركة مطلوبة، والتصويت للأصلح واجب

السياسة عندنا بما تعنيه من فن تدبير الشأن العام، بجلب الممكن من المصالح ودفع الممكن من الشرور والمفاسد عن الناس والدولة والأمة، دين نتعبد به الله تعالى، بل إذا كان ذلك مع الصلاح والإصلاح يكون من أعظم القربات لما يجريه الله على أيدي أصحابه من الخيرات، وليست السياسة في شيء من اللعب والعبث، وليست في أصلها طريقا للكسب والمنافع الخاصة والشخصية، فالمال العام مال حرام، لا يؤخذ إلا بحق وما تجيزه القوانين التي لا تخالف شرع الله ولا مبادئ الإسلام.
ولهذا لما ولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة، توجه في اليوم الموالي إلى السوق فاعترضه عمر رضي الله طريقه رافضا اشتغاله بالتجارة كعادته حتى لا تشغله عن أمر المسلمين، ففرضوا له فريضة، يقول ابن المفلح في شرح المقنع (ج8 ص148) متحدثا عن جواز أخذ من يتولى عن المسلمين أمرهم كالقاضي ونحو:” (وَلَهُ طَلَبُ الرِّزْقِ لِنَفْسِهِ وَأُمَنَائِهِ وَخُلَفَائِهِ مَعَ الْحَاجَةِ) وَرَخَّصَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَزَقَ شُرَيْحًا فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَرَزَقَ ابْنَ مَسْعُودٍ نِصْفَ شَاةٍ كُلَّ يَوْمٍ، … لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ فَرَضُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ.”
والعناية بالشأن العام لمن قدر عليه مطلوبة، وخصوصا في مثل زماننا حيث يعتبر مجرد التصويت مؤثرا على نوعية الاختيار لمن سيتولى بعض المسؤوليات المنصوص على اختيارها بالانتخاب، فالمشاركة في الانتخابات النيابية والتشريعية والجماعية المحلية والجهوية وغيرها من الانتخابات التمثيلية ذات الشأن المهم في المجتمع والدولة والمؤسسات، والتصويت للمرشح الصالح الكفء الأمين مطلوب شرعا ، ليقوم بالمهام التي يخولها له القانون وليقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المأمور به حيث هو، قال تعالى ” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) آل عمران :104.
بل إن الإدلاء بالصوت يكون واجبا شرعيا إذا غلب على الظن أن التقاعس في التصويت سيؤدي إلى وصول الفاسدين وغير الصالحين الأكفاء الذين يضرون الناس في دينهم ودنياهم ومصالحهم، ويحدث بوصولهم إلى مراكز القرار الوطني او المحلي والجهوي أو في أي مؤسسة  إخلال بمصالح العباد وإرباك لمقدراتهم وإيقاف لتنمية أوطانهم وعرقلة لتطور وكرامة المواطنين.
ويدخل في هذا الحكم ما يسمى بالصوت الفارغ المتعمد، أو “التصويت العقابي” الذي يوضع في غير محله، فإن فيه إضعافا لجانب أهل الخير والصلاح والكفاءة وفيه تقليل أعدادهم وفيه تقوية لجبهة الفساد والافساد والاستبداد وتكثير سوادهم. ويكون الأمر أشد إذا كان تصرفه مقويا لمن يفسد في العقائد والقيم.
ومن أدلى بصوته وكان سببا في وصول الصالحين الأكفاء فله أجر كل خير يأتي على أيديهم ويكون له نصيب في كل حسنة يأتونها ، ومن تقاعس عن الإدلاء بصوته وكان سببا في وصول غيرهم فيخشى أن يناله شيء مما يأتي على أيديهم من سوء أو يشاركهم في أوزارهم وموبقاتهم التي تصيب البلاد والعباد.
وتأتي محطات يجب فيها النفير السياسي العام، إذا كان خطر الفساد والاستبداد يتهدد الوطن والمواطنين، ويصلح فيها مثل قوله تعالى:”انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ” قال بعض المفسرين: معنى ” الخفة “، التي عناها الله في هذا الموضع، الشباب، ومعنى ” الثقل “، الشيخوخة.وقال آخرون: معنى ذلك: مشاغيل وغير مشاغيل.وقال غيرهم: معناه: انفروا أغنياء وفقراء.وقال آخرون: معناه: “نِشاطًا وغير نِشاط”. أي من وجد من نفسه ميلا الى ذلك، أو لم يجد ذلك الميل وكرهته نفسه ولكن يعصيها ويأتي الذي هو خير، وما يفرضه الواجب ومصلحة الوطن،وقال آخرون: معناه: ركبانًا ومشاةَ.وليس هناك ما يمنع أن تكون تلك المعاني مقصودة جميعا، والاية وإن كان ظاهرها في الجهاد العسكري لا يمنع استصحاب معانيها في أشكال الجهاد الاخرى شريطة ان يكون ذلك في سبيل الله ومرضاته وفق شرعه وأوامره ونواهيه.
ونستحضر ما جاء في التلكؤ عن الاستجابة لأمر النفير العام لجلب الخير ودفع الشر، مثل قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “
فالسياسة لا يمكن إخراجها من قول الله تعالى الشامل:”قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ” ومن السياسة الراشدة المشاركة بخير فيها، ومن الخير فيها اختيار الأصلح الكفؤ، ومنطق العقل والشرع يفرض البدء في الترجيح بأصلح الهيئات والأحزاب قبل صلاح الأفراد، إذ الفرد الصالح في هيئة فاسدة مفسدة كمسمار صغير سليم وقطعة صالحة في سيارة معطلة لا تصلح للسير ولا للركوب، ولعل في انتساب من نراه صالحا الى هيئة فاسدة ما يشكك حتى في صلاحه أو على الاقل يثير شكوكا في صلاحه السياسي.
فالتصويت شهادة تدلي بها بين يدي ربك، فعند دخولك المعزل تذكر ربك ومولاك وانس عنك الخلق والناس، واعلم أنها أمانة تؤديها أو تكون في ركب الخائنين، وليخش المقاطعون بغير عذر ولا تأويل سليم لهم فيه برهان من ربهم ومن ذوي العلم المعتبرين أن يدخلوا في مثل قوله تعالى”وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا” فهذه دعوة الوطن فاختر له الصالح المصلح، وأغلق الباب بكل قوة في وجه الفاسدين المفسدين ولو كانوا من القبيلة وذوي القربى، ويفعل الله خيرا بنا وبكم وبهذا الوطن.
د. محمد بولوز

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى