بابا خويا يكتب: المجلس التربوي الشبابي في ملحمة البناء الحضاري
تخوض حركة التوحيد والإصلاح – كغيرها من فصائل العمل الإسلامي – معركة قوية، في سبيل التمكين لقيم الدين ومفاهيمه وتجلياته في مختلف جوانب الحياة. وقد اتخذت لذلك عدة واجهات، لعل أبرزها واجهة التربية، وما يتخللها من نظريات ونماذج ومناهج وأساليب وتطبيقات. ذلك أن تربية الإنسان عملية معقدة، وصناعة منهجية بامتياز، تحتاج إلى مهارات عالية وأفكار بانية وأجواء مناسبة.
لكن للأسف الشديد، ونظرا لتعدد مشاغل الحركة واستهلاك خريجيها في أعمال تابعة – ولأسباب أخرى كثيرة، صارت المسألة التربوية داخل صف الحركة، تعرف بعض التراجع لعل من أبرز مظاهر ذلك، هو ضعف الإهتمام بالمجلس التربوي، كأحد المحاضن الرئيسية لأداء العرض التربوي للحركة. ورعاية الخلية الحضارية الأولى للأمة، بالمساهمة في تكوينها وبنائها، وتأمين أسباب تفجير طاقاتها وإيقاظ فعاليتها، لتجاوز واقع الأزمة والسلبية والهوان، ومجاراة العصر بفكر إسلامي أصيل، ورؤية حديثة متجددة.
فالمحاضن التربوية للحركة -خاصة المجلس التربوي- تحتاج إلى زيادة اهتمام، وتكثيف الجهد للإرتقاء بها وتوسيع دائرة تأثيرها.
ومساهمة في هذا الجهد المطلوب، لاسترداد عافية مجالسنا التربوية شكلا ومضمونا، سنحاول بسط الحديث عن المجلس التربوي الخاص بالشباب، لكون الحركة لازالت قاعدتها شابة ولله الحمد، ولأن طبيعة هذا المجلس، منذ نشأته على يد الرسولﷺ إلى اليوم ذو روح شبابية..
وذلك من خلال المحاور التالية:
– جولة تاريخية في مسار تطور المجلس التربوي.
– الميزة التنافسية للمجلس التربوي.
– أدوار المجلس التربوي في احتضان قضايا جيل الرقمنة.
أولا: جولة تاريخية في مسار تطور المجلس التربوي:
انطلقت دعوة الرسول ﷺ بنَفَس إصلاحي عميق، وفق رؤية استراتيجية تراعي إمكاناته البشرية البسيطة، وظروف بيئته الموغلة في البداوة.
في البداية جمع ﷺ حوله ثلة من أصدقائه وأبناء عشيرته المقربين، وأسس أول مجلس تربوي، بمنزل الشاب اليافع “الأرقم بن أبي الأرقم”، الموجود على جبل الصفا. كان ﷺ يتلو على رواد هذا المجلس ما ينزل عليه من القرآن الكريم، ويبين لهم ما أشكل عليهم فيه،ويشرح لهم معاني وحقائق بعثته الخاتمة..
بالموازاة كانت هناك مجالس تربوية أخرى، يعقدها الصحابة مع المنتسبين الجدد لصف رسول الله ﷺ. ورغم قلة عدد روادها، لأنها كانت تقام في البيوت أو في شعاب مكة، أو في فضاءات بعيدة عن آذان وأعين المتربصين من كفار قريش.. إلا أنها كانت تضم فئات متنوعة من ساكنة مكة ونواحيها، غير أن فئة الشباب كانت هي الغالبة. وكان للنساء أيضا مجلس خاص بهن مع الرسول ﷺ، يتم فيه مدارسة قضايهن وأمورهن الخاصة.
واستمر الرسول ﷺ في عقد مجالسه، سواء في مكة أو بعد هجرته إلى المدينة، حتى صارت أصلا ثابتا في ممارسته الدعوية. دلَّت على ذلك أفعاله ﷺ وأقواله وتقريراته. يتخول فيها أصحابه بالموعظة الحسنة وتأليف القلوب، ويتعهدهم بالنصح والتذكير والتحفيز والبيان..
وتوارثها عنه الصحابة (ض) وحافظوا عليها، سواء في حياته أو بعد وفاتهﷺ. واتخذو لها شعار ” اجلس بنا نؤمن ساعة”.
لقد كان المجلس التربوي، هو وسيلتهم لفهم القرآن وتعلم الإسلام وفقه الدين. كما كان له دور في صقل مواهبهم التواصلية، وقدراتهم القيادية وتمتين روابطهم الإجتماعية..
وبعد تفرق الصحابة (ض) في الأمصار، كانت هذه المجالس هي أسلوبهم في التربية والتعليم ونشر الدعوة، وبناء جيل نصرة الإسلام والتمكين للمسلمين.
فكانوا يجمعون الناس في مجالس، يتراوح حضورها بين القلة والكثرة، يعلمونهم القرآن الكريم، ويفقهونهم في دينهم وسنة نبيهم، ويدعونهم إلى فعل الخير والإعراض عن الشر.
بنفس حيوية جيل الصحابة، حافظت أجيال التابعين على سنة المجالس التربوية، واستغلوا أوقاتها في الذكر والدعاء وتلاوة القرآن ومدارسته.. وطلبا للمغفرة والثواب، وتحصيلا للسكينة والرحمة والفوز بالجنة.
واستمر توارث الأمة لهذه السنة المباركة جيلا عن جيل، حتى وصلتنا مثل غيرها من السنن. فاحتضنتها الأمة بالقبول والرعاية والتطوير، وصار لها حضور بارز في أوساطها، وتنوعت أشكالها بين الإجتماع في المساجد والزوايا، وبين الإلتقاء في المقرات والبيوت.
والملاحظ على هذه المجالس التربوية، من خلال هذا المسار التاريخي الموجز، أنها تحولت من سنة مباركة في التربية والتزكية، إلى مؤسسة فاعلة ومؤثرة في حفظ بيضة الإسلام وصيانة أركانه ومبادئه. فالكثير من دول العالم الإسلامي، تم فيها القضاء على أنظمة الإسلام الحاكمة. لكن بفضل هذه المجالس -وغيرها- التي ظلت متواجدة، سواء في البيوت برعاية الأسر، أو في المداشر والكهوف بإشراف العلماء والصالحين.. تؤدي دورها في التعليم والتزكية، ونقل ميراث النبوة لأجيال الأمة. فاستطاعت هذه الدول أن تعود إلى هويتها الإسلامية، وتبلي البلاء الحسن في المسيرة الحضارية للأمة.
فالمجلس التربوي بما يملكه من شرعية وأصالة، ومن خبرة في التربية والإصلاح، ومن عمق تاريخي ورصيد ثقافي.. يعتبر وسيلة فاعلة في ملحمة الأمة، نحو النهضة والشهود على الناس..
ثانيا: الميزة التنافسية للمجلس التربوي
صمود المجلس التربوي طيلة هذه المدة الطويلة – منذ تأسيسه على يد الرسول ﷺ- واستمرار عطائه وتأثيره إلى اليوم، رغم التحولات الكبرى والمنعطفات الخطيرة التي مر بها. يعكس قوة ذاتية لهذا المجلس، وجاذبية خاصة لأدواره ومهامه. فقدراته التنافسية عالية في مواجهة التحديات، وإجاباته وافية شافية في حل الكثير من الإشكالات، وهو ما جعله متفوقا على نظرائه ومنافسيه في تقديم خدمات جليلة للأمة.
وسنعرض جانبا من هذه الميزة التنافسية، ممثلة في ثلاث خصائص يتميز بها عن غيره:
أ- توريث منهج التكوين:
حرص الرسول ﷺ في مجالسه التربوية على توفير الأساليب الفعالة، والمساعدة على بناء جيل قيادي، قادر على حمل أعباء الدعوة والقيام بمسؤولياتها. فاتبع منهج التكوين في التربية لأصحابه، من خلال تعليمهم طريقة المدارسة لآيات القرآن الكريم. التي تعتمد أساسا على الإستيعاب والإرتقاء، من خلال المشاركة والعمل الجماعي في الفهم والتفكير والإستنباط، سواء للنص القرآني أو للبلاغ النبوي.
فأسلوب التدارس منهج تكويني رفيع، ووسيلة تعليمية راقية، تجعل المتلقي يبذل جهده -مع غيره- في قراءة الآيات المعدودات وتعلم أحكامها، وفي فهمها وتَبَيُّن معانيها، وفي التخلق بقيمها وتطبيق أسرارها، ثم الإجتهاد في تبليغها وإشاعة نورها في بيئته الإجتماعية.
إن هذا المنهج وما يؤول إليه من تعلم وتدبر واستكشاف وفعل وحركة واجتهاد.. ليُعتبر أنسب طريق لتربية الشباب وتأهيله، لأنه كفيل بتحرير عقولهم وترويض نفوسهم وتزكيتها، وصيانة تفكيرهم وتوجيه مقدراته نحو المبادرة والإبداع، ودعم قيم التعاون والتشارك في شخصيتهم، والإقبال على الحياة بروح طموحة قادرة على الفعل والتأثير..
ب- تثبيت العقلية التأصيلية:
من خلال منهج التكوين الذي أرساه الرسولﷺ في مجالسه، تشكلت قاعدة أساسية في التفكير لدى الصحابة(ض)، تقوم على الإرتباط بأصل المعرفة الكونية، والإهتداء بمفاهيمها وتصوراتها للحياة وللقوانين الحاكمة للوجود. فبالإرتباط بهذا الأصل تَمَّ شحذ فعاليتهم العِلمية، وجعلها قوّة معرفية مُؤثرة، حوَّلت استعداداتهم وغيَّرت قناعاتهم في ظرف وجيز، وصاروا نواةً صلبة لمشروع الرسول ﷺ، وقاعدة مُؤهلة للإنتشار والتأثير في بيئتها ومحيطها.
إن الإحتكاك بنصوص الوحي وتداول معانيها في النفس والآفاق، والإشتغال بها كحقائق إيمانية، ومفاهيم شرعية وقضايا عمرانية في تدبير شأن الدعوة، لَيُوَلّد مسالك منهجية متفردة لفهم الواقع وإشكالاته، واكتشاف ما يناسب ذلك من جهد وعُدّة لإصلاح عالم الأفكار، وتجديد مناهج التفكير ومعايير المعرفة الصحيحة، وقوانين الإنجاز الفاعلة.
كما أن هذا الإحتكاك يُقوي أواصر الوحدة الفكرية، والإنسجام المعرفي بين القوى العاملة للإصلاح، ويضيق دائرة الخلاف والفرقة بينها، ويجعل علاقاتها ومصالحها متناغمة مع أصولها المرجعية ونصوصها الحاكمة..
فبهذه العقلية التأصيلية التي أرساها الرسولﷺ في مجالسه التربوية، المستندة إلى الهدى المنهاجي لنصوص الوحي، استطاع ﷺ وضع اللبنة الأساس لمشروعه الحضاري، وتوفير أهم شرط في الوراثة الحضارية، وهو تشكيل عقلية المسلم الرسالي فكرا وعزما وطموحا.
ج- ترسيخ ثقافة أداء الواجب أولا:
كان هَمُّ رسول اللهﷺ في مجالسه التربوية، هو إعادة بناء الإنسان وصياغة أسلوبه ونموذجه في الحياة. فكان تركيزه على القيم الصحيحة الباعثة للفعل الحضاري، والتي تجعل الإنسان ينتقل من عقلية اللوم ومؤاخذة الآخرين والشكوى والنقد الهدام.. إلى نظام فكري جديد أساسه العمل والإحسان فيه، وأداء المسؤولية بأمانة والإلتزام بالواجب. ودعم ذلك بالحوافز الإيمانية، من إخلاص لله تعالى وتحرير القصد له والتوكل عليه.. للخروج من منطق الإنتظارية والنزعة التبريرية، إلى ضرورة الفعل والمبادرة والإنجاز كسبا وعطاءًا.
هذا هو النموذج الفريد الذي أرساه رسول اللهﷺ في مجالسه، بإشاعة قيم الإيجابية والفاعلية في شخصية الصحابة، وجعلهم منارات تلتزم العدل والقسط مع ذاتها قبل غيرها، وتأتي بالخير وتحرص عليه أينما حلَّت وارتحلت، ومستعدة للبذل والتضحية في كل وقت وحين.
ثالثا- أدوار المجلس التربوي في احتضان قضايا جيل الرقمنة:
يتميز الجيل المعاصر من الشباب، بتفاعله الكبير مع ثورة تكنولوجيا المعلومات، حتى أصبح يوصف بجيل الرقمنة. والتي مَسَّت كل جوانب حياته، وأثرت فيه بشكل كلي أو جزئي. فصارت لهذا الجيل مواصفات خاصة للحياة، سواء في رغباته واحتياجاته، أو في أفكاره ومعارفه، بل حتى في نماذجه وقدواته..
ونعتقد أن المجلس التربوي بأدواره الرسالية، وبتجربته التاريخية الناجحة، قادر على استيعاب هذا الجيل، وتوجيه طاقاته نحو خدمة مشروع الأمة، والمساهمة في تحسين أوضاعها وإصلاح ظروفها والإرتقاء بأحوالها..
وسنعرض جانبا من هذه الأدوار بشكل مختصر:
أ- إشباع حاجات الشباب الأساسية:
من القضايا الأساسية للشباب المعاصر، والتي تحتاج إلى معالجة وإشباع، نجد مسألة الإنتماء وقيمة الحرية وحُلم الشهرة.
وهذه القضايا وغيرها، للمجلس التربوي قدرة كبيرة على التأثير فيها وبناءها على أسس متينة.
فمسألة الإنتماء عند الشباب، كحاجة فطرية طبيعية، والتي يراد تمييعها وربطها بولاءات هامشية (فريق، مغني، شعار..) على حساب الإنتماء الجوهري. لابد من ربطها بأبعادها الحقيقية، المتمثلة في الهوية الدينية، والشعور برابطة الأخوة الإيمانية، وتجسيد ذلك في الإلتزام بالواجبات والإستعداد للتضحية في سبيل الدين والوطن والأمة..
وقيمة الحرية في حياة الشباب لها اعتبار خاص، ومكانة متميزة. فهي وسيلته لإثبات ذاته وتأكيد شخصيته، واستقلاله عن أوليائه وتحرره من كل القيود. لذلك نستطيع استيعاب هذه المشاعر والتوجهات، بتنمية هذه الرغبة ضمن ضوابط شرعية وقيود أخلاقية واجتماعية، تراعي جوانب الإمتاع والترفيه والجاذبية، ودعم مواهبه وقدراته في بناء شخصيته المستقلة والمتحررة، وتقديم النصح والتوجيه دون تصادم أو تقاطع.
أما حلم الشهرة والنجومية، فطموح إيجابي لدى الشباب، يحتاج إلى توجيه واستثمار، من خلال تقديم نماذج راقية لهذا الحلم سواء في الماضي أو الحاضر، وتعزيز ذلك بالقيم الأخلاقية والمعاني الإيمانية والدعائم النفسية، لحفظ هذا الحلم من سلبيات الشهرة، خاصة الغرور وأخلاق الفجور، والتقليد الأعمى وما يؤدي إليه من ازدواجية الشخصية وفقد هويتهم التي تميزهم.
ب- توجيه الشباب نحو دائرة التأثير:
ما يلاحظ من ظواهر وسلوكات ومواقف في حياة الشباب اليوم، يختزل العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى استكشاف وتفسير وبحث وجواب، حتى لا تكون مقاربتنا لأوضاعهم قاصرة. وبذلك فنحن بحاجة إلى الإنصات العميق لهمومهم، وتلمس أجوبة علمية وواقعية لإشكالاتهم.
ونعتقد أن فضاء المجلس التربوي، وما يتضمنه من برامج وفقرات ونقاشات، مناسبة رائعة لتعميق الوعي بقضايا الشباب وهمومه، والعمل على تركيز جهدهم في دائرة التأثير، التي يستطيعون فيها إحداث نتائج إيجابية، لقدرتهم عليها بغض النظر عن الظروف والأحوال.
فالتركيز على دائرة التأثير، وجعلها عادة في حياة الشباب، وتوجيه طاقاتهم نحو قضاياها، خطوة أساسية في تربية الشباب، ودفعهم نحو المبادرة لحل مشاكلهم ومواجهة صعوبات حياتهم بعزيمة وإرادة واجتهاد.
ج- إنشاء جماعة الأصحاب المناسبة:
لجماعة الأصحاب قوة تأثيرية سحرية على بعضهم البعض(يرى الخبراء أن نسبة تأثير الأصدقاء على بعضهم قد تصل إلى 75‰) سواء في تحديد السلوك واتجاهات الحياة المختلفة، أو في بناء المفاهيم والقناعات الفكرية والثقافية.
فجو الصحبة وما يعرفه من انسجام وطمأنينة وتنافس، وما تعرفه لحظاتها من محاكاة وتفاعل وتناغم، يوفر مساحة تربوية ناذرة، لغرس القيم وتكوين التطلعات وبناء الإهتمامات، واكتساب الميولات والنماذج الراقية.
واجتماع الشباب في مجلس تربوي مرة في الأسبوع أو أكثر، يمكنه المساعدة في توفير جو آمن لانتعاش هذه الصحبة، ودعم ترابطها ونسجامها وتكاملها، حتى نضمن إيجابياتها ونحمي مكتسباتها ونتجنب ظواهرها السلبية..
وفي الختام نؤكد، إنه لشرف عظيم أن تقف حركة التوحيد والإصلاح على هذه الخدمة الرسالية، وتوجه أغلب جهودها وأغلى أوقاتها، وأفضل طاقاتها وأحسن برامجها لاستئناف مسيرة وعطاء هذه السنة المتواترة، وفتح المجال ليستفيد من فرصها وبركاتها كل محب وراغب.