اليأس ظلمة – الزهرة الكرش

تحاصرك الظلمة من كل جانب ليس لأنك تلبس نظارات شمسية حالكة السواد ولكن لأن النور لم يعد يخترق بؤبؤ عينيك، غدا كل شيء أسودا فما عاد للألوان مكان. غابت الأنوار وحل محلها السواد كليل بهيم لا بدر يضيئه، لا تكاد تميز فيه شيئا حتى إذا أخرجت يدك لم تكد تراها.

يأس قاتل ذاك الذي غرقت فيه و التصقت قدماك بوحله ولم تعد  ترى إلا من خلال عتمته، فصولك كلها أضحت خريفا شديد القساوة، أصبحت العتمة ملاذا تركن إليه كلما حاصرتك تلك الأفكار التي غدت مع مرور الأيام نفسا تتنفسه، فأصبحت تتكلم بلغة من تجاوزه الزمن، بلغة من لم يعد قادرا على الحركة فقد دب الهرم في كل أوصاله، بلغة المنهزم الذي لم يعد قادرا على المقاومة.

يصعب تقبل الأمر!! شاب في ريعان شبابه يفقد الأمل في غد أفضل ويخيم اليأس بظلاله على حياته وفكره واختياراته فيمشي بلا وجهة وعلى غير هدى فاقدا للمعاني، فاقدا للبوصلة فتنة شديدة الوطأة أن تجد نفسك تعيش في الظلام فاقدا الأمل في بزوغ فجر جديد.

غيرة ويأس شديدان أصابا إخوة يوسف، غيرة من المكانة التي بلغها أخوهم عند أبيه ويأس من أنفسهم أن تبلغ ما بلغه يوسف عليه السلام، ظلمة شديدة سطت على قلوبهم (اُ۟قْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اِ۪طْرَحُوهُ أَرْضاٗ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِنۢ بَعْدِهِۦ قَوْماٗ صَٰلِحِينَۖ) {سورة يوسف الآية 9}، ظلمة حولتهم إلى عجزة، فقدان أمل حولهم إلى مجرمين، يأس دفع بهم إلى استعمال طاقتهم الفكرية في الشر فبدل التفكير في إيجاد حلول إيجابية اختاروا الحل الأسهل الذي لن يكلفهم عناء التغيير والمحاولة. فاليأس يحولك إلى إنسان لا حول لك ولا قوة، إنسان نخر العجز تفكيره فبدل أن ترى الأمور بموضوعية وتسلط الضوء على المشكل الحقيقي أو الخلل الحقيقي تبحث عن جهة تعلق عليها عجزك وعدم قدرتك على التغيير، تبحث عن شماعات تعلق عليها فشلك في التغلب على يأسك.

لم يستطع إخوة يوسف أن يركزوا على نقاط قوتهم وتميزهم والعمل على تطويرها ليرفعوا مكانتهم عند أبيهم بل سولت لهم أنفسهم اليائسة العاجزة أن يلقوا باللوم على غيرهم وأن ينسبوا فشلهم لأخيهم ليكون سبب كل شر وبلية.

لا تكن كإخوة يوسف وتستسلم ليأسك فيعميك عن نقاط قوتك وعن القدرات الهائلة التي أودعها ربك فيك (..وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) {البقرة الآية 269} حكمة بالغة إن أخرجتها للوجود تجاوزت كل الصعاب وبلغت ما كنت تظن يوما أنك لست ببالغه، حكمة تقيك المهالك وتنير لك المسالك.

يونس عليه السلام أدخله يأسه من قومه الظلمة، ظلمة بطن الحوت (وإنَّ يونسَ لَمِنَ المُرسلينَ  إذْ أبَقَ إلى الفُلكِ المَشحون  فساهَمَ فكانَ مِن المُدحضين فالتقمهُ الحوتُ وهُوَ مُليمٌ){الصافات139.. 142}. يأسه قاده إلى ظلمة لم يعهدها من قبل فاليأس ظلمات بعضها فوق بعض كلما تملك من صاحبه أغرقه فيها.

خرج سيدنا يونس عليه السلام غاضبا من قومه بعدما يئس من هدايتهم وأصدر حكمه عليهم فلا أمل فيهم، العذاب واقع بهم لا محالة فلم يعد يملك لهم شيئا، هكذا هو اليأس حين يغشاك لا يترك لك فرصة لترى بريق الأمل، فأسكنه الله ظلمة الحوت ليعرف أن لا نور إلا نور الله. فأعلن عليه السلام إعلانا مدويا (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) {الأنبياء الآية 87} أعلن انكساره أمام ربه فظلمه هو من أودعه الظلمات. فلمن الملجأ ولمن الملاذ، طبعا لله الواحد الأحد (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ) حين تحتلك الظلمة يبقى نور الله الملاذ الأوحد لكسر العتمة، يبقى نور الله الأمل للخروج ومعانقة الحياة (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ… ){سورة النور الآية 35}

ظلمتك، يأسك، إحباطاتك لا عاصم لك منها إلا خالقك، وأنت تغرق في بحر ظلماتك وأفكارك السلبية تمتد يد الله إليك لتخرجك منها (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.. ) {البقرة 257} نور يضئ أعماقك ويسبح بك في ملكوت السماء والأرض ليطلعك على ما عميت عيناك عنه.

يلجأ يونس عليه الصلاة والسلام إلى الله موقنا متذللا معترفا بفضل ربه عليه، خاضعا له سبحانه، يملؤه يقين لا يخالجه شك أن ربه لن يتركه لمصيره المجهول وهو لا محالة منقذه مما أوقعه يأسه فيه (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ){الصافات 142_143} تسبيحه لله وتعظيمه ربه في قلبه (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ) جعل أنوار لا اله إلا الله تشع في كل خلية من جسده وتمده بالقوة لتحمل وطأة ما ابتلي به.

تسبيح ودعاء خاشع وتوبة نصوح كانت كافية ليستجيب له الرحمان الرحيم (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ){الأنبياء الآية 88}. فأزال الله ما حل به من غم وما أصابه من حزن لأنه كان صادقا في تسبيحه، صادقا في مناجاته، صادقا في إيمانه، صادقا في توبته.

يقينك، إيمانك هو العاصم والمنجى (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، فاحذر أن تقع فريسة لليأس فيهوي بك في ظلمة قاحلة تنغص عليك عيشك وحياتك وتحرمك لذتهما وتفقدك الثقة بنفسك وقدراتك بل وتفقدك إيمانك فتفسد علاقتك بربك وينهار عالمك في لحظات.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى