النور في القرآن الكريم – ليلى محمد بلخير

يتعلق ذكر النور في القرآن العظيم بلطائف وأسرار بالغة الأثر، فما هو النور؟ لا يمكن بأي حال أن نراه ولكن نرى به الأشياء، ولماذا النور؟ حتى لا نتخبط في الظلام ، و كيف يكون النور ؟ أي يكون لنا منهجا ينير لنا الحياة .

وهناك فرق كبير بين النور القرآني، والاستنارة في الفكر الغربي والتي انبعثت مع بدايات  عصر النهضة ، تحت مسميات كثيرة منها التنوير والعقلانية ،والتي تقوم أساسا على تمجيد العقل والمنهج العلمي ، والقطيعة مع كل ما هو مثالي وروحي وماضوي قديم ، ومادامت العقلانية ممارسة تقوم على الإيمان بقدرة  العقل الا محدودة في تفسير المعقول والا معقول ، حتى عقلنة الواقع ،وعقلنة الممارسات والسلوكيات الاجتماعية في خضم هيمنة الفكر الغربي المنتج للمعرفة ،في توطيده لحوار أحادي سلطوي عابر للثقافات، يحمل طابع التنوير والاستنارة والعقلنة وهو في عداء للإنسان وكل القيم الإنسانية لم يخلق الإنسان من أجل هدف  تافه بل من أجل رسالة سامية ، وقد زوده الله بقوانين تنظم حياته وغايته وأشواقه هل نستطيع العيش بلا نور ؟ أبسط آلة لها نظام تشغيل وقانون تسير عليه وصيانة، فما بالك بالإنسان ، أبسط حركة أو عمل أو إنجاز لا بد له من طريقة ، وصفة بخطوات واضحة ، مكونات معلومة ، ووقت محدد ، النور في القرآن هو منهج هداية وطريقة فيها ثقة ووضوح وقدرة على النجاح في الإنجاز قال الله تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴿40﴾ معناه من طلب الاستنارة بغير نور الله فهو في ظلام وضلالة ويقول أيضا ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ  ﴿35﴾ يعني يهب الله للأصفياء من عباده القدرة على استبصار الطريق والسير على منهج مأمون للوصول إلى أشرف الغايات .                   

   ورغم كل ذلك لابد من الوعي بالعقبات التي تعطل السير في طريق النور، العقبة الأولى التي تشوش على المؤمن المعاصر الرؤيا ،في واقع مادي مظلم ،هي الوفرة والتنويع ، بحيث يصاب بالإبهار والزغللة والشتات ، من مجرد النظر والمتابعة  ولا يملك حسم أمره إلا بعد شد للأعصاب وإنهاك للعقل وهدر للمال ،من أجل السير على قاعدة تعزيز للإشباع من أجل المنفعة والمتعة وكلما ازداد تلبية لهذا المطلب الجسدي، كلما ازداد نهما وشراهة وتعبا  وما نراه الآن من عدم التناسب بين الوفرة المادية والأمراض المتفشية وحتى الضنك والتعاسة والإحباط أكبر برهان  ، ما العمل حتى نرتاح من ضغط الوفرة والكثرة ؟ وكيف السبيل لمعالجة الإحباط الشديد الملازم للإشباع الزائد ؟ كيف نحسن الاختيار؟  وكيف نملك القدرة على الثبات على هويتنا وذوقنا ؟ يجب أن  نختار على نور ،ولا ننساق وراء التكديس ، أو ننخدع بالتنويعات في علب فاخرة وماركات عالمية من الطعام واللباس والمسلسلات والبرامج والكتب وقنوات التلفزيون والصحف وكل مناشط الحياة، النور هنا هو الوعي بالمنهج في التركيز على المضمون لا في الشكل واللون والوفرة ، قال صلى الله علية وسلم ( أحب الأعمال إلى الله  أدومها وإن قل )  وهو مبدأ عزيز نحاول أن نتمثله في زمن الكثرة والرداءة وغياب المعنى ، ولهذا كان الصوم مدرسة تطبيقية لمنهج القرآن القويم ، التدريب على التحكم في الإشباع وضبطه وتأجيله وفق قانون صارم ، ينير البصيرة ويرقى بأشواق الروح .

وأيضا من العقبات في طريق النور، هي الجمع بين التناقضات في وقت واحد ،وموطن واحد وشخص واحد، مما يجعل العقل في حالة من التبلد والتحجر ( يجعل الحليم حيران ) ، كمن  تلبس الخمار واللباس الفاضح وعند الصلاة تبحث عن ساتر ، كمن يدرس في القسم الرسمي  التعتيم والطلمسة لأولاد العامة، ويدرس الدرس الخصوصي بالغلاء الفاحش لأولاد الخصوص وفيه المعلومات منظمة وميسرة وكاملة غير منقوصة ، أيضا كمن تصلي وتصوم وتخدع من حولها بالتواصل الافتراضي باسم مستعار ، في السر والكتمان ، وتبيح لنفسها المحظورات إن لم يكن في نهار رمضان ففي ليله ،وكأن الصوم مجرد امتناع شكلي لا التزام إيماني وعقيدة تتأسس على الطهارة في القلب واللسان وفي العلاقات داخل الأسرة وخارجها ولهذا كانت سورة النور منهاجا  تربويا  كاملا ودعوة قوية للعفة وتؤسس لبناء فرد وأسرة ومجتمع على نور وضاء يبهج الحياة ، النور في القرآن ليس شأنا ماديا بل له حضور   معنوي وروحي يقول الله تعالى ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿32﴾ صورة طريفة  تظهر البؤس الذي يتخبط فيه من هو في غيظ من نور الله المشرق في الكون والأنفس ، يحاربونه بوسائل مادية محدودة قاصرة وغير مجدية ،لأن الله هو نور السموات والأرض هو متم نوره بقوانين صارمة وحكمة بالغة غير مكترث لكره الكارهين أو تحايل المنافقين أو كيد الحاقدين ، هو نور الله الغامر يسطع من داخل الأفئدة ويشع سكينة وخلاص وسعادة في كل الأرجاء .

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى