المرجعيات الوطنية التي تضمنها المواثيق الدولية..قصة كتاب
بمناسبة الجدل الدائر حول مراجعة مدونة الأسرة، حضرتني بعض التمارين الدولية والوطنية الناجحة التي خضناها في هذا الموضوع بالذات بداية الألفية، نحتاج اليوم إلى أن نذكر بخلاصاتها ونتائجها في هذا السياق فائدة وعبرة.
فقد عرفت نهايات القرن الماضي تحولات وتقاطبات فكرية وقانونية كبرى ظهرت بجلاء في مؤتمرات ولقاءات دولية حول المرأة والسكان، والتي صدرت عنها وثائق مرجعية دولية خلقت جدلا واسعا في مصادقة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عليها واعتمادها وتنزيل مقتضياتها، وأهمها “اتفاقية سيداو” للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1976 ، وتوصيات مؤتمر القاهرة حول السكان والتنمية 1994، وكذا توصيات القمة العالمية الرابعة للمرأة ببكين 1995 حيث برزت مفاهيم جديدة في قضايا الأسرة أشهرها الصحة الإنجابية، والنوع الاجتماعي، وصحة المراهقين، وتمكين المرأة، والمساواة والإنصاف، ومحاربة العنف ضد النساء.
وقد شكلت كل هذه المؤتمرات الدولية فضاء لتدافع المرجعيات الدينية من جهة، والمادية الدهرانية من جهة ثانية بخصوص قضايا الأسرة والمرأة والزواج وحقوق الطفل وغيرها من المفاهيم والقضايا التي تملك المرجعيات فيها رؤى متباينة ومختلفة اختلافا يجد تجلياته في التنزيل الحقوقي والاجتماعي والاقتصادي والصحي.
وبعد مصادقة هذه المؤتمرات على القرارات ذات الصلة بهذه القضايا أصبحت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة بتنفيذ مقتضياتها بعد مصادقتها عليها مع ضمان حق الدول الأعضاء في الإعلان عن تحفظاتها على بعض المقتضيات التي قد تتعارض مرحليا مع قوانينها الوطنية في انتظار ملاءمتها مع المقتضيات الدولية والرفع التدريجي لها.
وضمانا لحق العديد من الدول من حماية خصوصياتها الاجتماعية والأسرية دافعت الدول ذات مرجعية دينية وحضارية معينة وخاصة الدول الإسلامية خلال هذه المؤتمرات على اعتماد صيغ مرنة في التوصيات النهائية التي ستصدر عنها تمكنها من الملاءمة بين خصوصياتها الوطنية والتزاماته الدولية على مستوى تشريعاتها وقوانينها ومشاريع عملها.
وهكذا سمحت توصيات اتفاقية “سيداو” ومؤتمرات القاهرة وبيكين للدول الأعضاء بتنفيذ مقتضياتها مع احترام خصوصياتها الدينية والثقافية إذا كانت ترى فيها تحقيقا لمبادئ المساواة التي تنص عليها كما سيأتي بيانه، وحرصا منها على التوعية بهذه القضايا على أوسع نطاق حثث القرارات الدولية على ضرورة إدماج المفاهيم التي تتضمنها هذه الاتفاقيات في المنظومات التربوية للدول الأعضاء.
وفي هذا السياق تبرز دور المنظمات الإقليمية والدولية المختصة في التربية والثقافة والعلوم، وفي حقوق الإنسان، وفي قضايا البيئة والتمكين الاقتصادي للنساء، وفي مجال الشباب والطفولة، في تطوير خبرات الدول الأعضاء كل منها في مجال اختصاصها من أجل تحقيق الأهداف الكبرى التي تحددها الاتفاقيات الدولية ومواكبتها بالخبرات اللازمة، ودفعها إلى تبادل الخبرات والتجارب فيما بينها، مع سعيها لإيجاد الصيغ التنفيذية الملائمة بين المرجعيات الدولية والخصوصيات الوطنية كما تضمن ذلك الاتفاقيات الدولية الموقعة.
وحيث أن التعاون في موضوع الصحة الإنجابية والنوع الاجتماعي وصحة المراهقين وتمكين المرأة والارتقاء بوضعية الأسرة يحتاج إلى تنسيق في الرؤى والتصورات بين الدول الإسلامية المشتركة في المرجعية الدينية والتاريخية والحضارية عبر وثائق مرجعية تنفيذية تستند إليها في التنزيل، فقد عقدت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة ورشات عمل بكل من عمان والقاهرة لمناقشة هذه القضايا وتأصيلها في المرجعية الإسلامية المعتمدة في الدول الأعضاء، والاجتهاد فيها بمشاركة فقهاء وعلماء اجتماع وأطباء وخبراء في مجال الأسرة والطفولة وحقوق الإنسان، مما مكنها من إنجاز وثائق علمية مرجعية جد متقدمة في هذه الموضوعات.
ثم دعت إلى تنظيم مؤتمر دولي بالرباط لمناقشة خلاصات هذه الورشات، واعتمادها، وقد دعا هذا المؤتمر إلى ضرورة إصدار دليل تربوي لإدماج مفاهيم الصحة الإنجابية والنوع الاجتماعي في مادة دراسية بعينها هي مادة التربية الإسلامية باعتبارها مادة لتأصيل هذه المفاهيم في المصادر المعرفية النصية والاجتهادية الشرعية وتطبيقاتها التربوية، وذلك بالشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان.
ولهذه الغاية شكلت المنظمة فريقا من الخبراء المعتمدين لديها لتأليف هذا الدليل بالاعتماد على توصيات مؤتمرات “سيداو” والقاهرة وبيكين، وخلاصات الأوراق العلمية لورشتي عمان والقاهرة للخبراء، وقد تشكل هذا الفريق من كل من خالد الصمدي خبير تقييم وتطوير المناهج التعليمية، ومحمد فتوحي خبير التربية البيئية والسكان، وعبد الغني المعروفي خبير التربية السكانية.
وبعد إعداد الدليل عقدت منظمة الإيسيسكو اجتماعا للدول الأعضاء لمناقشته والمصادقة عليه واعتماده، فكانت المصادقة عليه بالإجماع ما عدا تحفظ دولة عربية إفريقية واحدة على بعض مقتضياته التي اعتبرتها مخالفة لدستورها.
ثم أرسل النص النهائي للدليل إلى صندوق الأمم المتحدة للسكان قصد اعتماده أيضا، حتى يكون معترفا به ومعتمدا من طرف الايسيسكو كمنظمة إقليمية تمثل العالم الإسلامي وصندوق الأمم المتحدة للسكان باعتباره الصندوق المختص التابع للأمم المتحدة فيجمع الدليل بين المرجعيتين الإقليمية والأممية.
وبعد مدة تزيد عن ستة أشهر تقريبا استغرقها فحص الدليل من طرف خبراء الصندوق وصلنا متضمنا العديد من المقتضيات التي اعتبرها هؤلاء الخبراء مخالفة للاتفاقيات الدولية وطلبوا إدخال التعديلات الضرورية على الدليل بالحذف والتغيير حتى يعتمد من طرف الصندوق.
تداولنا في المنظمة في معظم التعديلات المطلوبة وصنفناها إلى صنفين الأول يتعلق بقضايا اجتهادية قابلة للنقاش والتدقيق والتعديل، والثاني يتعلق بقطعيات الدين الإسلامي التي لا تقبل التأويل ولا التفسير، ومنها القضايا ذات الصلة بالحقوق الاقتصادية للجنسين وأسس تكوين الأسرة عن طريق الزواج الشرعي، وتحريم الزنا والقذف في الأعراض وكل ما يؤدي إلى اختلاط الأنساب وغير ذلك من القطعيات، والتي اعتبرناها في جوابنا الذي بعثنا به إلى صندوق الأمم المتحدة للسكان أنها تدخل ضمن الخصوصيات الدينية والثقافية التي تكفلها الاتفاقيات الأممية مستندين في ذلك إلى المادة 23 من اتفاقية “سيداو” التي نصت على ما يلي “ليس في هذه الاتفاقية ما يمس أية أحكام تكون أكثر مواتاة لتحقق المساواة بين الرجل والمرأة تكون واردة في دولة طرف ما “.
وبعد مدة توصلنا بالموافقة التامة على اعتماد الدليل كاملا بناء على التعديلات التي أدخلناها والتفسيرات التي قدمناها بخصوص القضايا القطعية التي احتفظنا بها في الدليل، وذلك استنادا إلى المرجعيات الدولية نفسها وخاصة المادة 23 من اتفاقية “سيداو” سالفة الذكر، واعتبر صندوق الأمم المتحدة للسكان أن تبريراتنا مقبولة طبقا للتوصيات الدولية ولم يبد بشأنها أي تحفظ وقد صدر هذا الدليل بعد ذلك مطبوعا بشعاري كل من منظمة الإيسيسكو وصندوق الأمم المتحدة للسكان وترجم إلى الإنجليزية، وأصبح وثيقة دولية معتمدة في الموضوع، ويوجد اليوم منشورا بالعربية على شبكة الإنترنيت.
وأذكر أن هذا الدليل كان بعد ذلك حكما فاصلا في عدد من قضايا التماس بين المرجعيتين بالمغرب، وخاصة في إعداد دليل ثان لإدماج مبادئ مدونة الأسرة في المناهج التعليمية، والذي اشتغلنا عليه بوزارة التربية الوطنية في حكومة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي وفي عهدة الوزير الحبيب المالكي وزير التربية الوطنية والمرحوم محمد بوزوبع وزير العدل وكاتبة الدولة المكلفة بالأسرة والطفولة ياسمينة بادو، وتم إعداد هذا الدليل من طرف فريق من الخبراء يضم كلا من خالد الصمدي عن مادة التربية الإسلامية، وأمينة المريني الوهابي عن مادة الاجتماعيات، وفؤاد الصفا عن مادة الفلسفة وخديجة وهمي عن مادة التربية الأسرية، وذلك بتعاون مع منظمة دولية أخرى هذه المرة هي منظمة اليونيسيف وقد صدر هذا الدليل في جزئين باسم كل من وزارة التربية الوطنية المغربية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة يونيسيف.
وكانت الوزارة قد أعدت هذا الدليل بعد أن أصدر جلالة الملك توجيهاته السامية في خطابه أمام البرلمان بتاريخ 10 أكتوبر 2003 بضرورة العمل على إدماج مبادئ وقيم ومفاهيم مدونة الأسرة في المناهج التعليمية بهدف الوعي بها وترسيخها، وهو الذي أطر هذا الورش حفظه الله ساعتها بقولته المشهورة ” لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين أن أحل حراما أو أحرم حلالا “.
وقد تم طبع هذا الدليل في وثيقتين إحداهما نظرية والأخرى تطبيقية وتم توزيعه بأعداد وافرة على جميع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين.
وهكذا تمكننا في فريقنا الأول بمنظمة الإيسيسكو سنة 2001، وفي فريقنا الثاني بوزارة التربية الوطنية سنة 2004 من خوض تمرين إصدار وثيقتين هامتين في قضايا الأسرة تجمع بين المرجعيات الأممية والمرجعية الإسلامية، وذلك بالاستناد إلى مقتضيات قانونية وطنية ودولية، مما يقوم دليلا على إمكانية القيام بهذا التمرين بنجاح كلما تعلق الأمر بالموازنة بين الخصوصيات الدينية والثقافية للدول والتزاماتها الدولية، دون الوقوع في التقاطبات الحدية.
ويؤكد هذا النجاح في إصدار الوثيقتين على أن كل من يستدعي هذه الحدية وهذا الصراع كلما فتحت مواضيع الأسرة للمناقشة والتعديل بزعم سمو المرجعيات الدولية على المرجعيات الوطنية على سبيل الإطلاق، لا يخلو مسعاه من نفس إديولوجي لا تسنده لا المرجعيات الوطنية التي ينبغي أن تكون منفتحة على الاجتهاد الخلاق الذي لا يصطدم وقطعياتها، ولا الاتفاقيات الدولية التي رأينا كيف أنها تتضمن مقتضيات مرنة تساعد الدول الأعضاء على تحقيق المساواة التي تنشدها باعتبارها مقصدا تسعى إليه وإن اختلفت الطرق والوسائل.