المتقاعد بين الجحود والتكريم

في الأحوال العادية والطبيعية يعين الموظف الذي قضى فترة من التدريب في إدارة من الإدارات، ويقضي فترة عمله مجدا نشيطا تتفاوت مردوديته حسب ضميره وشعوره الواعي بتحمل المسؤولية. وحينما يستكمل مدة عمله يحال على التقاعد، منتظرا لحظة التكريم والاحتفاء بمساره العملي الذي قضاه استقامة ونزاهة وتضحيات جسام.
في بلدنا الحبيب صناديق التقاعد تعاني من أمراض شتى أقلها نقصان الموارد وكثرة المتقاعدين.
لقد أتى على هذه الصناديق حين من الدهر كانت تنعم فيه بالوفرة وكانت مواردها موضوع استثمار في مشاريع مدرة للدخل، المهمة التي كان يقوم صندوق آخر اسمه صندوق الإيداع والتدبير. لكن بفعل سوء التدبير وغياب الحكامة الجيدة فشلت أغلب هذه المشاريع، إضافة لعدم أداء الدولة ما بذمتها تجاه الصندوق، إذ يشترك طرفا عقد العمل في التسديد المشغل والموظف.
ومع ارتفاع عدد الموظفين ومعدل نسبة الحياة باتت هذه الصناديق – عوض ان تكون بلسما شافيا للمتقاعدين بتأمين معاشهم واستدامته – ذلك البعبع الذي يقض مضاجعهم وينغص عليهم حياتهم.
ليس غرضي من المقال المعالجة التقنية لوضعية هذه الصناديق فذلك من اختصاص الخبراء في الاقتصاد، لكن أريد إثارة الموضوع في علاقته بمستقبل المتقاعدين المطبوع بالخوف من المصير المجهول والتهديد المستمر من نفاذ مخزون الصناديق.
في الدول التي تحترم نفسها وتعتبر المورد البشري كنزا لا يعوض، اللحظة المنتظرة للموظف المحال على التقاعد هي تنظيم حفل تكريم رسمي تقدم له فيه هدايا تذكارية وشهادة تقدير بحضور زملاء العمل والمسؤولين، مع كلمات الثناء على ما قدمه طيلة مساره المهني اعترافا بالجميل وشحذا لهمة إخوانه الذين هم في وضعية القيام بالوظيفة وتشجيعهم على المزيد من العطاء ونكران الذات.
لكن في بلدنا المحال على التقاعد طوعا بعد استيفاء الشروط أو استكمالا للمسار المهني، ينام ويستيقظ على كوابيس فراغ الصناديق مهددا في معاشه والتلويح بإصلاحها بين الفينة والأخرى، مع ما يستتبع ذلك من إجراءات تجهز على حقوقه المكتسبة.
فكيف سيحس الموظف المتقاعد الذي اقتطع من أجره طيلة مساره المهني تأمينا لمعاشه، إذا علم بأن المشغل (دولة أو إدارة) لم تؤد ما بذمتها؟ ما هي الرسالة التي نريد إبلاغها له؟
هل كان سيقع ذلك لو كانت الحكامة الجيدة تطبع تدبير الصناديق والمراقبة المستقلة ضامنا ومؤتمنا؟
لقد ظلم المتقاعد مرتين مرة بشعوره السلبي والمحبط إزاء الصناديق المهددة بالإفلاس ومرة بعدم الاهتمام به بعد الإحالة على التقاعد وكأنه عبء على الإدارة تم التخلص منه.
الإدارة المغربية وخصوصا في الجماعات المحلية لم تعود مستخدميها نظام التحفيز والتشجيع والاعتراف بالجميل، بل أكثر من ذاك يعمد المسؤول الجماعي إلى توبيخ المستخدمين جميعا والمقصود البعض منهم الذي قد يقصر في مهامه، فيتم جمع الكل في سلة واحدة دون تمييز: فالمقصر لا يحس بتأنيب الضمير لأنه لم يستهدف مباشرة، والمجد يشعر بالإحباط والتذمر وعدم الجدوى.
كما يقوم نفس المسؤول باتهام الموظفين بأنهم يحصلون على مرتب محترم وبتعبيره المفضل:”الزبابل ديال الفلوس” لكنهم لا يشتغلون ويتغيبون ويتأخرون. وتصبح هذه الأسطوانة رائجة سارية المفعول في كل اجتماع معهم، إلى درجة أنهم حفظوها ويذكرونها بينهم قبل موعد الاجتماع.
إن هذا المسؤول أشعر مستخدميه بأنه يمن عليهم بدفع رواتبهم المحترمة وكأنه يقتطعها من بيت مال أبيه، وفي أقل الأحوال يشعرون بأن رئيسهم يحسدهم على نعمة الله عليهم ويتمنى زوالها عنهم؟؟
فهل ينتظر من هكذا مسؤول أن ينظم حفل تكريم على شرف المتقاعدين طوعا أو كرها؟
هل يتوقع أن يخصهم بالتفاتة تعيد لهم الاعتبار بعدما أفنوا زهرة شبابهم في الإدارة؟
إن التكريم الحقيقي للموظف هو نظافة مساره المهني واستقامته ونزاهته وجديته قياما بالواجب وتبرئة للذمة.
الاحتفاء المحض هو اجتياز امتحان الوظيفة دون خسائر بل بربح الرهان خدمة للمواطنين
الذين ما إن يروه في الشارع بعد التقاعد حتى يهبون للسلام عليه وتحيته احتراما وتقديرا، أي كما يقولون عنه :”ترك مكانه نقيا”.
عبد الواحد رزاقي
متصرف ممتاز محال على التقاعد النسبي بجماعة ترابية