المتاعب النفسية والإدارية للضحل اللغوي في المجتمع – الحبيب عكي

لا زالت مسألة التعبير اللغوي من أبرز المشاكل التي يعاني منها التلميذ المغربي إذ غالبا ما يفضل أو يضطر إلى التعبير عن مسألة تستوجب التفصيل باختصار مخل يجمله في كلمة أو اثنتين مثل نعم أو لا أو رائع وممتاز، وما هو برائع ولا ممتاز ولكن الفقر اللغوي هو الذي صيره كذلك، ناهيك عن الهجين اللغوي في الحديث العام في البيت وفي الشارع والمرفق العام والإعلام العمومي الذي لا يستطيع فيه العديد من الناس نطق جملة سليمة دون أن يخلطوا فيها بين كلمات ومصطلحات من مختلف اللغات واللهجات لا يستقيم تركيبها، ولكن الفقر اللغوي وربما الاستلاب والعقوق اللغوي جعلها تؤدي بعض المعنى هو في الحقيقة أقرب إلى اللامعنى، ناهيك أيضا عن إشكال عويص يرتبط بالكتابي كما بالشفوي وهو حينما يضطر التلميذ في إجاباته وامتحاناته أو ربما سؤاله وتواصله العام إلى التفكير باللهجة الأم وترجمة ذلك في ذهنه إلى اللغة العربية ثم إلى اللغة الأجنبية التي لا تسعفه مما يضعه في موقف يفضل فيه الصمت مكرها، وإنزال نفسه راضيا منزل التلميذ الذي لا يفهم ولا يشارك في القسم على أن يخوض غمار ترجمات لا يسعفه فيها لا فهم المعاني ولا لغة المباني.

ويبقى التلميذ دائما هو الضحية بما يجني عليه العجز اللغوي في الدراسة أولا وفي التواصل المجتمعي الذي يكون فيه معاقا بامتياز ويضطر فيه كثيرا إلى التواصل بالإيماءة والسبابة أو بالسباب والشجار كل رصيده فيه كلمات نابية وحركات عنف مدمرة لنفسه قبل خصمه وغيره، ويجني على نفسه ثانيا في الترفيه أيضا إذ تستحيل عليه الألعاب الجماعية الممتعة وتستحيل عليه المواقع الإلكترونية المفيدة لا لشيء إلا لأنها تتطلب لغة رصينة عربية كانت أو أجنبية ليجد المسكين نفسه في مرتع الصور والألعاب المبددة للوقت والمقعدة للنمو الفكري والثقافي دون طائل.

أما في الجامعة وما بعدها من رحلات البحث عن العمل خاصة في الخارج أو حتى في الداخل ولكن في التخصصات الجيدة، فدونه ودونها من جديد معاهد خصوصية ودروس ليلية لإعادة التكوين والتأهيل وكأنه لم يدرس يوما شيئا وخاصة في مجال امتلاك اللغات ومجالات التدبير والتواصل.

عندها يندم التلميذ المسكين ولات حين مندم على ما كان قد تغيبه في حصص الدرس اللغوي، وما لم يتقنه من القواعد النحوية ولا عشقه من سحر البيان إلى درجة أنه كان كثيرا ما يعمد إلى شراء درهمين من “الزريعة” بدل شراء قصة بسيطة تسليه أو جريدة رخيصة توعيه، وربما كان يعمد أحيانا إلى شراء علبة سجائر يخرب بها صحته بدراهم معدودات بدل شراء قاموس ينمي به رصيده اللغوي، وكان…وكان…وكان…وكان يحفظ ويغني العديد من “الريبرطوارات” الغنائية الركيكة بدل أن يحفظ ويرتل شيئا من محكم ينابيع اللغة العربية الفصحى ألا وهو القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والأشعار الحكيمة والسير والمغازي وما نهل منهلها ولف لفها من الإبداعات الشيقة عبر الزمان والمكان.

لماذا لا يكون عندنا تلاميذ شعراء وإن في الشعر لحكمة ؟ لماذا لا يكون عندنا تلاميذ خطباء، وفي الخطابة قيادة وإرشاد؟ كيف هم تلاميذنا عموما مع الإبداع والاختراع والإنتاج بدل الاستهلاك، واللغة وعاء كل ذلك وامتلاك ناصيتها محركه ومحوره؟؟

لسنا بصدد البحث عن الحل، فالمسألة أعقد مما نتصور أو نقترح، المسألة كانت مشكلة قديمة ولازالت معضلة حديثة، حقيقية غير وهمية، وكم تكسرت عليها العديد من الجوانب التنموية الأخرى وتخلفت، ولم تفد في ذلك التحسرات ولا المتمنيات، ولا أسعفت فيها المبادرات الفردية ولا القرارات الإجرائية والمضامين الدستورية، رغم أهمية ذلك كله وضرورة استمراره بلا شك.

ولعلي سأورد بعض الصور واللقطات التي تبين حجم المأساة والمتاعب النفسية والإدارية للمواطنين جراء هذا الموضوع، وفي طياتها أيضا بعض الحلول والمقترحات التي ستؤتي أكلها كلما تفاعل معها المعنيون وكلنا معنيون وإن من مواقع ومسؤوليات مختلفة.

 اللقطة الأولى: اللغة ليست مجرد لغة وأداة تواصل بين الناس، بل هي روح وهوية وحاملة الأفكار والمعاني والمبادئ والقيم والأخلاق، وصدق من قال:”كما تتحدث كما تأكل، كما تلبس كما تتصرف”، ولعلنا سنقف على هذه الصورة جلية ناصعة بمجرد إطلالة بسيطة على الحرم الجامعي، فلكل شعبة طلبتها، ولكل طلبة ملبسهم وحديثهم ومظهرهم، وسلوكهم العام تحرريا كان أو محافظا، ولا مجال للمقارنة مثلا بين طلبة اللغة الفرنسية أو الإنجليزية وبين زملائهم في اللغة العربية أو الدراسات الإسلامية، سمتا ولباسا وحديثا ومعاملة قد تطال حتى الجنس الآخر، ومن هنا يبدأ الاختيار، هل نريد أن نكون كما نحن، متمسكين بلغتنا وهويتنا وقيمنا وأخلاقنا أم مجرد شخصيات زئبقية على هويات ولغات وثقافات الآخرين وإن ادعينا من الانفتاح والكونية ما ادعينا؟

اللقطة الثانية: استغربت كثيرا وأنا أقف في أحد شوارع المدينة على لوحة إشهارية لمؤسسة خصوصية تعنى بتعليم اللغات، مجمل اللغات الحية والتي ليست ضمنها اللغة العربية طبعا، حسب هذه اللوحة، ولماذا ستكون فيها اللغة العربية في الدراسة وهي لا يستعملها خريجوها في المقاولات والأعمال ولا في الفنون والسياحة والمعلوميات والمباريات والتبادل الدولي الذي تهتم به هذه المؤسسة؟؟ والغريب أن تجد آلاف من هذه اللوحات في شتى شوارع المدينة المغربية وداخل مؤسساتها بلغات وأسماء يعلم الله لمن هي وأين هي، المهم أنه ليس بينها وبين السكان الطيبين إلا الخير والإحسان، والأغرب من ذلك أن يكون هذا عاديا وساري الفرض في مجمل الإدارات والمؤسسات العمومية والخاصة، فتصدمك هذه اللغة الغريبة في وكالات التأمين بعقودها، ووكالات البريد والأبناك بأوراقها، وفي مكاتب الماء والكهرباء بفواتيرها و وصولاتها، وفي تفسير التناوب اللغوي في قانون الإطار، وفي مباريات ومقابلات التشغيل، بل حتى في الرد على خطوط هواتف المصحات والمكاتب ومراكز الإرشاد والاستماع.

كل شيء “مفرنس ومعرنس ومدرنج” أو”خلط جلط” رغم أنف الدستور والقوانين الوطنية والدوريات الحكومية، ومفروض على المواطن وهو ليس بالضرورة فرنسي اللسان، ومن غطرسة الفرض لا يمنح له حتى إمكانية الاختيار بين أن تكون هذه الوثائق والمقابلات والمكالمات التي تعنيه باللغة الفرنسية أو باللغة العربية وهي اللغة الوطنية دستوريا إلى جانب أختها الأمازيغية وموضوعها أعرص، فهل بعد هذا استهتار واستخفاف بالمواطن، ونحن نتفنن في متاعبه النفسية ومشاكله الإدارية وعوائقه التواصلية، رغم ما يترتب عن ذلك من خروقات ومتاهات وإمضاءات والتزامات ومسؤوليات؟؟

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى