اللغة العربية أساس التنمية البشرية في وطنها (2) – د محمد الأوراغي
ضمانات اللغات ومميزات العربية
اللغاتُ البشرية، من جهة الاضطلاع بوظيفة التواصل، متساوية؛ فلا يكتسب أحدٌ لغة المنشأ ويظل مع ذلك معزولا في مجتمعه عاجزا عن التواصل مع أفراده. إذن، كلُّ لغة تضمن لأصحابها أن يتواصلوا بها على نحو مما يمكن.و مع هذا التكافؤ الوظيفى تختص العربية بمميزات فارقة.
واللغات، باعتبار العمليات المنفقة في صياغة العبارات المحققة للتواصل، أنساقها متفاوتة بيانا (1) واقتصادا (2) ؛ فلا يأتي نفس «المفهوم الوظيفي»، كالاختصاص والحصر والمشاركة والمغالبة في كل اللغات بنفس الدقة والوضوح، ولا يجري التعبير عنه في جميع عنه في جميع اللغات بنفس القدر من العمليات.
واللغات، بالنظر إلى دواوينها الثقافية، أحجامها متفاوتة؛ ولذلك لا يستطيع أصحابُ اللغات المستعملة في عالم اليوم أن يتواصلوا بنفس الدرجة من العمق الثقافي في أي من الحقول المعرفية والميادين العملية الرائجة في العصر الحالي. وبعبارة أخرى، لو جُمعَ جمعٌ من علماء الأديان فرضا، ليتحدَّثَ َكلَّ واحد بلسان قومه عن موضوع الجنَّة مثلاً، لتفاوتت أوصافهم اتساعاً وضَيْقاً ومثلُ هذا التفاوت المعرفي مترتب حتماً عن تفاوت في ما يتضمنه معجم كلِّ لغة من مفردات ترتبط بالموضوع الموصوف.
اتضح مما سبق أن اللغات البشرية في الاضطلاع بوظيفة التواصل متساوية، لكنها متغايرة نسقياً؛ لأنها لا تُرضي مبدأي البيان والاقتصاد بنفس الدرجة، ومتفاوتة ثقافياً لأن معاجمها لا تحتوي على نفس المقدار من المفردات الواصفة لنفس الموضوعات.
ولا بأس من التذكير هنا أن ثقافة القوم محمولة في مفردات معجم لغتهم (3) ، إذ كل مفردة تُعتبر حدا محملا لمفهوم معين، وتعريفها حد مفصل وتركيبها معلومة مستفادة، ومقدار المعلومات المتجمعة حول أي موضوع بعض من ديوان اللغة الثقافي. وتتكرَّرُ هذه المعادلة في كل مجتمع لغوي. حتى إذا أردت أن تتحقق من المستوى الثقافي لأي قوم فالتمسه في معجم لغتهم فحجم معجمِ اللغة يُعادل مستوى ديوانها الثقافي. لذلك، لا يكون معجم لغة واسعاً وديوانها الثقافي ضيّقاً، أو العكس. وعلى قدْرِ إغناء المعجم يتحدّد مستوى النمو الثقافي بشرط ألا يكون هذا الإغناء عن طريق الاقتراض من معاجم أجنبية لإثراء قواميس ورقية (4)، كما هو حاصل في مؤسسات التعريب المنتشرة في وطن العربية.
***
1 – للتوسع في المفهوم من مصطلح البيان راجع ص 90 من كتاب الجاحظ، البيان والتبيين ومقدمة الجرجاني لكتابه أسرار البلاغة. والبيان مستعمل هنا بمعنى قدرة القواعد النسقية على توليد الرموز القولية للدلالة على المعاني الكلامية، وهذه القدرة ليست واحدة في جميع اللغات. فقد تعبر لغات كالعربية عن مفاهيم وظيفية كالمغالبة وجمع الجمع، ولا تعبر عنها لغات أخرى بنفس الدقة وقد تعجز
2 – الاقتصاد يعني هنا مجموع ما تُجريه كلُّ لغة من عمليات صرفية وتركيبية لبناء العبارة اللغوية الدالة على المفهوم الوظيفي الواحد. ويظهر ذلك من خلال المقارنة مثلاً بين ما تُجريه العربية والفرنسية من عمليات لتركيب البناء للمفعول .
3 – ربط الكثير بين معجم اللغة وثقافة أهلها، وللتوسع في الموضوع راجع حركة التأليف عند العرب، للدكتور أمجد الطرابلسي، ومقدمة الصحاح لأحمد عبد الغفور العطار.
4 – لقد استقر التمييز حاليا بين المعجم والقاموس؛ فالأول يصدق على عدد غير محصور من المفردات المختزنة في أذهان الناطقين باللغة. بينما القاموس يدل على عدد محصور من المفردات التي جمعها لغوي من الكلام المكتوب والمنطوق، فضبط مبناها وشرح معناها ودونهما في كتاب يُنسب إليه. وعليه يجب أن تكون مادة المعجم واحدة، ومادة القواميس متفاوتة. الأولى موزعة في أذهان الناطقين باللغة؛ كل بحسب مستواه الثقافي. والثانية متفرقة في قواميس اللغويين بحسب اجتهادات أصحابها.