السلطات وطبيعة العمل الديني التربوي – شيروان الشميراني

خلال الفترة التي مضت وبعد نقاش وجدال غير منقطع في الأوساط الإيرانية الرسمية والشعبية، أُقِرَّ قانون معاقبة النساء اللاتي لا يلتزمن بالحجاب أو اللاتي يتنافى زيهن مع الشروط التامة للشريعة الإسلامية، وعودة شرطة الاخلاق الى الشارع لملاحقة الفتيات والوقوف بوجه الوثبة التي شهدتها المدن الإيرانية ضدّ إجبار النساء على تصميم محدّد للباس رسمياً، والعقوبة تقررها دوائر الشرطة. منها إلزام المخالفات بعقوبة غسل الميت والعمل في المقابر. الموقف النظامي جاء على خلفية الازدياد المستمر والتحدي الصارخ المتصاعد من المرأة الإيرانية لسياسة الجَبْر الرسمي.

يدفع هذا الموقف الباحث الى الحديث والتذكير بطبيعة العمل الديني في المجتمعات البشرية، بعده العقائدي والتربوي على وجه الخصوص، كيف هو الفعل التربوي الديني وكيف يمكن أن يأتي بالثمرة المرجوة منه؟

العلماء من أهل الفكر والنظر، عندما يتحدثون عن المعجزات الإلهية التي يعطيها – سبحانه – للأنبياء، مع انها خارجة عن المألوف ويعجز البشر على مجابهتها أو إنكارها، إلا أنها للإقناع وليست للإرغام، فهي تأتي لإثبات النبوة عن طريق الإقناع وليس الإرغام على الإيمان، بما يوصلهم إلى القناعة والإطمئنان الى التصديق وليس الاضطرار الى القبول، ولا الإكراه على الرضوخ، لأن ذلك مخالف لسرّ التكليف الإلهي ويسلب العقل حرية الاختيار، في حين ان الدين يفتح المجال الواسع أمام العقل دون سلب الاختيار منه، وبذلك يتحدد الانسان الصالح والمطيع لله عن غيره، وتظهر حقيقة المعادن البشرية.

فإذا كانت المعجزة هذه موقعها في مجمل دعوة النبوة والتي هي من الأساس تعتمد على كسر العادات وخرقها وهي من الأمور التي يقف البشرعاجزاً أمامها وحائراً، فكيف بالأوامر التي لا يكون الانسان مأجوراً فيها إلا إذا بدرت منه قناعة يقينية ؟ ما يعني أن منهج النبوة في الزام الإنسان بالاوامر والنواهي قائم على الإقناع والترغيب والترهيب المعنوي ” الإلتزام وليس الإلزام” وهو ما سار عليه رسول الإسلام -عليه الصلاة والسلام- طيلة دعوته، في فترات القوة والضعف على سواء، لأن أسلوب التبليغ الديني لا يتعلق بالقوة والضعف تجاه المقابل، بل بقيمة الحقيقة ومدى تقبل المخاطَب لها، وهو التغيير من القاع، من الأساس، ما يُعَبَّر عنه بالتغيير الحضاري، أي التغيير الذي يشتغل على عمق النفس البشرية ويخاطبها قبل العمل على تحركات الجسد وترويضه.

هذه الميزة لطبيعة العمل الديني تميز الدين عن المناهج الأخرى ف “هناك خلاف جوهري بين مناهج التغيير الوضعية التي تقوم على أساس التغيير الفوقي، أي التغيير الذي يتوسل بالسلطة السياسية وبالدولة كأداة من أجل فرض مشروع التغيير الاجتماعي…وبين منهج التغيير الحضاري الإسلامي الذي ينبني فيه التغيير الاجتماعي على أساس متين وهو الإنسان” (2)، لان التغيُّر -وهو مرفوض- شيء مختلف عن التغيير المقبول.

وإن كانت من قوة وسلطة مادية فهي تستغل من أجل الترغيب والتشويق وجعل الدين جذاباً أمام العقول والابصار، وتفعيل المراكز التربوية وإنشاء الأجيال فيها، ليكون المظهر الديني المجتمعي حقيقياً وليس مزيَّفاً، وتكون الخشية من الله بالغيب هي الدافع وراء الالتزام وليست الخشية من عقوبة الحاكم أو طمع الحصول على إمتيازاته، والالتزام المعنوي النابع من القناعة العقلية اليقينية هي التي تجعل الفعل الديني أكثر نجاعة في ضبط المجتمع واستقراره أكثر بكثير من القوانين المجردة، لأنها تُداس من قبل القادِر على الإفلات في أشد الدول والمجتمعات قانونية، في إيران التي هي أساس حديثنا، والنظام المعتمد في كل شيء رسمي على الفقه الديني دون منافس لأكثر من أربعة عقود، فإن حالات السرقة إزدادت خلال سنوات فقط بنسبة 500 ٪ إحصائيات سنة 2016- نسبة الاعتقال عن حالات السرقة كانت 370000 حالة، ارتفعت في 2021إلى مليون و 400 ألف، وحتى الدول التي كانت تعتمد على هيئات الأمر بالمعروف التي كانت تتدخل في خصوصيات الانسان والعائلات، جاءت ردّات الفعل عكسية إلى درجة كبيرة، ونسبة إنتشار الألحاد فيها لافتة، لأن الدين لا يعمل عن طريق الإكراه، ولا يثمر، وطبيعة البشر لا تتعامل مع حالات الفرض الفوقية إلا بقدر ضعفه المادّي وعجزه عن المواجهة، والدين مصمَّم للبشر بادواته ومنهجه الخاص في العمل، وليس بالأدوات العاكِسة لأمزجة البشر المتضاربة.

إنّ حالات التفلت من الدّين عبر التاريخ، الإسلامي والمسيحي، وحركات التمرّد عليه ومحاولات شطبه من الحياة، أحد أسبابها هو الجبر والإكراه والإنزلاق المظهري، في رواية “الوردة” يوضّح الفيلسوف والروائي الإيطالي القروسطي ( أمبرتو إيكو): كيفَ أنّ الناس يخلقون أعداءهم وأن ما يحدث في الأديرة يقود إلى فكرة أن محققي التفتيش هم الذين يخلقون الهرطقة”(2).

…….

1 – محمد يتيم، في منهج التغيير الحضاري، 5.

2 – علي بيغوفيتش، هروبي الى الحرية، 161.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى