الدخول المدرسي ونقد المثل الشعبي “المربي من عند ربي”

الحمد لله رب العالمين، يربي عباده بالخير وبالشر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك أنعم على التاس ببعثة النبي المربي الخاتم فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الجمعة: 2].وأشهد أن محمدا عبد ورسوله ربى جيلا قرآنيا فريدا على عينه، لم تعرف البشرية له نظيرا ولا مثيلا  صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الأخيار. أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون ونحن على أبواب دخول مدرسي جديد حري بنا أن نذكر بأهمية التربية وأنها قطب الرحى في صلاح الأوطان والبلدان. لقد أخبر الله تعالى عن حكمة ومقاصد بعثة نبيه عليه السلام فجمعها في التزكية أي التربية والتعليم للكتاب والحكمة. فأين نحن اليوم من هذين القطبين. لقد ركز المعلمون والآباء على التعليم ” إقرأ” لكنهم تغافلوا أو أهملوا القطب الثاني أي التربية والتزكية. وإنه لا تعليم بدون تزكية ، كما أن التعليم دون خشية خراب ودمار.

عباد الله لقد شاع بين الناس مثل غير صحيح يهوّن من شأن التربية ، ويجعلها أمرا فطريا لا جهد فيه للمربين ولا كسب فيه للإنسان. فأصبح الناس يتناقلون هذا المثل الشعبي السيء هو قولهم: ” المربي من عند ربي” إنها كلمة حق يراد بها باطل. فالله هو رب العالمين يتعهد خلقه بالرعاية والتربية، لكن حكمته اقتضت أن يرسل للناس من يربيهم ومن يعلمهم، وجعل تحقيق أثر التربية رهين بكسب الانسان وبجهده. قال تعالى في وصفه رسله: ” {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]” قال بعض المفسرين الرباني منسوب إلى الرُبان وهو معلم الناس ، وعالمهم السائس لأمرهم ، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى ، … وذكر العلماء صفات من يستحق أن يقال له رباني ، فذكروا الحكيم العالم ، الفقيه ، الحليم، ..وقال ابن عطية: ” الربانيون الولاة والأحبار والعلماء ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر لأن الحبر هو العالم والرباني هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم ، وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره .

الآباء والأمهات والتربية:

فحذار أيها الآباء من أن تلقوا الحبل على الغارب، وتتركون سفينة الأسرة بدون قيادة ولا توجيه، بل قوموا بما أوجبه الله عليكم من التعهد والتربية وتحملوا مسؤولية رعاية أبنائكم والإشراف على تربيتهم. وتذكروا قول النبي عليه السلام: ” كلمكم راع وكلمن مسئول عن رعيته …. قال ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة: ” فكذلك عليهم أن يَعلموا ما فرض الله على العباد من قول وعمل قبل بلوغهم، ليأتي عليهم البلوغ وقد تمكن ذلك من قلوبهم، وسكنت إليه أنفسهم، وأنست بما يعملون من ذلك جوارحهم.”

وقد تضمنت نصوص الكتاب والسنة نماذج من التوجيه والتلقين، التي تتدرج من التوجيه العابر إلى النهي والمنع من ارتكاب بعض ما لا يُحمد. قال الله تعالى:  {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [طه: 132]، وكان النبي عليه السلام يتفقد أهله وأبناءه ويوقظهم للصلاة، ووجه المسلمين لحث أبنائهم على إقامتها وزجرهم عن التهاون فيها فقال فيما رواه أبو داوود عن سيرة بن معبد الجهني – رضي الله عنه -: «مُروا الصَّبيَّ بالصلاة إذا بَلَغ سَبْعَ سِنين ، فإذا بلغ عَشْرَ سنين فاضرِبُوه عليها ». فاحذروا رحمكم الله من العناية بإيقاظ الأبناء للمدرسة وإهمال صلاتهم وذكرهم لربهم.

  وفي مجال العلاقات الاجتماعية والآداب العامة كان النبي عليه السلام يحد من حرية أبنائه وأقاربه ويعلمهم حسن التصرف في المجتمع. روى البخاري ومسلم عن عمر بن أبي سلمة -رضي اللَّه عنهما –( ربيب رسول الله ) قال : «كنتُ غُلاما في حجْرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ،وكانت يَدي تطيشُ في الصحفَة ، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ياغلامُ ، سَمَّ اللَّه ، وكلْ بيمينك ، وكلْ مما يلَيك ، فما زالتْ تلك طِعْمَتي بعدُ». وقد يصل الأمر إلى الزجر حين يتعلق الأمر بمسألة لا تحل كما فعل النبي عليه السلام مع الحسن حين أخذ تمرة من الصدقة وجعلها في فيه  فقال له : «: كِخْ ، كِخْ ، إِرْمِ بها ؛ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لا نأكل الصدقة ؟».

المعلم والتربية:

 وأنتم أيها المدرسون إن عليكم مسئولية كبيرة تتمثل في التحلي بالشفقة والرحمة مع من تستقبلون من التلاميذ والطلبة، وأن تكونوا لهم كالوالد لولده كي يُقبلوا عليكم ويأخذوا عنكم القيم والأخلاق.

أيها المعلمون والأساتذة إن الدخول المدرسي يذكركم جميعا بالمهمة الجسيمة الملقاة على عاتقكم إنها مهمة التربية والتزكية للنشء الصاعد وهي مهمة ثقيلة في ميزان الله تعالى، وتتطلب أن تكونوا من أهل القدوة وممن يقولون ما يفعلون ويفعلون ما يدعون إليه من الأخلاق الحميدة والسلوك الحسن . قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا }: – فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله ، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها ، وأول ذلك أن يهتدي بنفسه؛ لأن الانتفاع بهداه أعم ، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل–   …

أن الجموع التي تستقبلون أمانة في أعناقكم فقدروا الكلمة التي تقولونها وزنوا الحركة قبل أن تتحركوا بها واعلموا أن الدارسين والدارسات يسمعون بأعينهم أكثر من سماعهم بآذانهم نعم إن القدوة لا يكفي بها مجرد الكلام بل تحتاج إلى ممارسة الأفعال والعلم ليس مجرد نصوص تحفظ ولكنها الممارسة والتطبيق العملي الذي يجعل من النصوص أشخاصا تتحرك تترجمها إلى واقع عملي فتنساب في أذهان التلاميذ والتلميذات  ويتيسر عليهم هضمها والاستفادة منها ، وإلا فكلامكم لن ينفع :

 يا أيها المعلم غيره        هلا لنفسك كان ذا التعليم

 تعيب خلقا وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم

ألم تسمعوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ .البخاري عن أسامة.

التربية بالقدوة أبلغ وأقصر طريق:

يقول الشيخ محمد قطب:”إن من السهل تأليف كتاب في التربية،ومن السهل أيضاً تخيل منهج معين ،ولكن هذا الكتاب وذلك المنهج يظل ما بهما حبراً على ورق، ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك ،وما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه، وتصرفاته، ومشاعره، وأفكاره مبادئ ذلك المنهج ومعانيه،وعندئذٍ فقط يتحول إلى حقيقة…إذ من غير المعقول أن نطالب أبناءنا بأشياء لا نستطيع نحن أن نفعلها،ومن غير الطبيعي أن نأمرهم بشيء ونفعل عكسه…وقد استنكر البارئ الأعظم ذلك في قوله تعالى:”أتأمرون الناسَ بالبِر وتنسون أنفسَكم وأنتم تتلون الكتابَ ،أفلا تعقلون؟!”،وفي قوله جل شأنه:”يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟! كَبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.

قال ابن كثير قال الضحاك، عن ابن عباس: إنه جاءه رجل، فقال: يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تفْتَضَح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني. قال: قوله تعالى: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2، 3] أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرفَ الثالث. قال: قول العبد الصالح شعيب، عليه السلام: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود: 88] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك.

أيها المدريون أيها الآباء إنكم ملح البلد فمن يُصلح الملح إذا الملح فسد أنكم أطباء النفوس ودواؤها فكيف تصفون الدواء لغيركم وأنتم مرضى؟ قال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت، ثم أنشأ يقول:

وغير تقي يأمر الناس بالتقى … طبيب يداوي والطبيب مريض …

قال: فضج الناس بالبكاء…

وقال أبو الأسود الدؤلي:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم …

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها … فإذا انتهت عنه فأنت حكيم …

فهناك يقبل إن وعظت ويُقتدى … بالقول منك ويَنفع التعليم …

 أيها المدرسون والمدرسات مهنتكم من أعز المهن فجملوها بالإخلاص واحموها بالجد والمتابعة و المواظبة  ومهما كان نوع رقابة البشر عليكم فضعوا رقابة الله دائما نصب أعينكم وتذكروا قوله تعالى } ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}  واعلموا أن الغرس الذي تغرسونه اليوم سيثمر غدا .(تجنب الغياب أو التهاون في أداء الرسالة )

إنه بأخلاقنا العالية  كمعلمين و أساتذة ومعاملتنا الطيبة نصل إلى قلوب الطلاب .

كما أنه من خلال تضحيات المربين و مساهماتهم بجانب الإداريين في الأنشطة الثقافية و العلمية نساهم في تكوين جيل قوي سنأجر عند الله على ذلك .

  وأنتم يا معشر الشباب والطلبة والتلاميذ، احرصوا على بذل الجهد في التعلم، واستفيدوا من أخلاق مربيكم ومبادئهم الصحيحة قبل الاستفادة من علمهم. واعلموا أن كل فرد مسئول عن صلاح نفسه، وعلى حملها على التحلي بالقيم وبمبادئ الدين. وإن التربية كالغيث إن أصاب أرضا طيبة فإنها تزكو وتنبت الخيرات كما قال تعالى:  {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]. فكونوا كالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن  ربه، واحذروا من رفقاء السوء الذين يزينون لكم الباطل.

والحمد لله رب العالمين

د.الحسين الموس

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى