الجامعة المغربية وسُبُل استعادة أدوارها المفقودة – عبد الهادي باباخويا
أعتقد أن أول من أرسى قواعد التعليم بأفق حضاري هو الرسول (ص)، من خلال مأسسة العملية التعليمية، بمجالسه في دار الأرقم وفق المنهج القرآني، القائم على فعل القراءة “إقرأ باسم ربك الذي خلق”، وعلى رسالية العلم في تكامل وتناسق بين التعليم والتزكية “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين”.
واستطاعت هذه المنهجية الحضارية، أن تخرج أمة نموذجية في رشدها الفكري، وفي نبلها القيمي وفي حب الخير لغيرها من الأمم.
وقد تفاعلت أجيال الأمة مع هذه المنهجية بتوالي الحقب والسنين، وأبدعت في تنزيلها وتطبيقها بشتى السبل والوسائل..
وكان من نتائج هذا التفاعل، ظهور الجامعات في بلاد المسلمين، من حلقات علمية متخصصة داخل أروقة المساجد العامرة، إلى بناء فضاءات خاصة للمؤسسات الجامعية، بهدف رعاية الصفوة العالمة، القادرة على إنتاج الفكر وحفظ القيم وإبداع أجوبة مناسبة لأعطاب الأمة في مختلف المجالات.
ونحن في تلمسنا لطريق راشد، لإصلاح مؤسساتنا الجامعية اليوم، حتى تستعيد أدوارها المفقودة وتؤديها بشكل ناضج، نحتاج إلى الاستعانة بهذا المدخل الحضاري لأنه الأضمن -في اعتقادنا- لتحقيق هذا الهدف بأقل تكلفة وأحسن مردودية، والدفع بالمؤسسة الجامعية لتكون رافعة قوية لنهضة شاملة لأمتنا.
ونكتفي في هذا المقال، بذكر المعالم الكبرى لهذه المنهجية..
أولا- القراءة: برنامج تربوي لبناء الوعي
من المبادئ الراسخة في تصورنا الإسلامي، حرية الإنسان في اختيار أفعاله وعلاقاته ومواقفه في حياته. فإرادته وما تقرره من تلقاء ذاتها بكل استقلالية، وما تمارسه تبعا لذلك في واقعها بوعي أو بغيره، تجعل من صاحبها مسؤولا عن اختياراته واتجاهاته. حيث أن جهده وبذله هو من يصنع الفارق في الإنجاز من عدمه، وفي النجاح أو الفشل في أعماله..
والقراءة بما هي قدرة على الفهم والتركيب والاستنتاج، وما يتطلبه ذلك من استدعاء للمكتسب الذهني، لبناء أفكار ومعلومات عن الذات والآفاق من حولها.. هي عملية تربوية بالأساس، تهدف إلى إعادة بناء الإنسان فكريا للارتقاء بأسلوبه في ممارسة الحياة، عبر تزويده بالمفاهيم الصحيحة والمعتقدات السليمة والقيم الباعثة على فعل ما هو أصوب، بحيث تصبح محصلة القارئ مع مرور الوقت، رصيد ينطلق به للإنتاج والتفاعل مع معطيات الواقع، كما يوظفه في بناء تصوراته ومشاريعه المستقبلية..
لذلك فالقراءة السليمة بمختلف الوسائل الفعالة، هي مسار تربوي عميق التأثير في بناء وعي الإنسان، وتشكيل تصوراته عن نفسه وعن الكون والحياة، بحيث يشكل تراكمها المعرفي، سندا قويا في تصليب إرادتها وتقويتها، وإرثا مساعدا في الإبصار ووضوح الرؤية لماضيه وحاضره ومستقبله.
وتلعب مؤسسات الجامعة دورا محوريا في دعم هذا المسار، بإعادة صياغة شخصية الطالب في اتجاه تخليصه من عوامل الوهن الذاتي (الجهل/التخلف)، وتطعيمه بمقومات القوة الحقيقية (القراءة المستمرة)، التي يستطيع بها أن يكون نموذجا مأمولا، يمتلك القدرة على تمثل قيم الحضارة بين الناس. بسعيه الدؤوب والمتواصل في تغذية عقله بالمعلومات والمعارف الجيدة والمتجددة، وإمداده بالمعطيات والحقائق المساعدة على التحليل والتفسير والإدراك.. وكلها عناصر أساسية في برنامج بناء الوعي الراشد، الذي نأمله لرواد جامعاتنا.
ثانيا- التعلم: مسار تفاعلي لتشكيل الثقافة
من مولدات الفاعلية الحضارية عند الإنسان، قدرته على تمثل المفاهيم، وبلورة الرؤى المستخلصة من ذخيرته الفكرية، ومن تجربته في المدافعة وحل المشكلات الواقعية. ولا شك أن هذا المنحى التفاعلي وليد عشق شديد للمعرفة، وحرص قوي على التعلم ومتابعة كل ما هو جديد.
لذلك تحتاج مؤسساتنا الجامعية إلى دفع روادها أثناء مسيرتهم الجامعية، للتمييز بين مجال اهتمامهم العلمي ومجال تأثيرهم الأكاديمي، لتتحقق الجودة في تحصيل المعرفة والإتقان في تفعيل مخرجاتها الثقافية. سواء على مستوى التخصص الذي اختاره الطالب، أو على مستوى الوفاء بالحاجات الاجتماعية للأمة ومتطلبات الشأن العام.
وهذا يحتم على الطالب المتخصص في أي علم من العلوم، أن يوظف مسائل تخصصه الجزئية، والعبور منها إلى القضايا الكلية لمجتمعه والمشاغل الهامة لوطنه، بالبحث والتفكير والمبادرة، والإبداع في استثمار ما يملكه من قدرات معرفية، ومؤهلات فكرية في التعبير عن الشخصية الجماعية المشتركة للأمة، وفي التأثير بهذه المؤهلات لتثقيف مجتمعه وإصلاحه. إضافة إلى سلوكه الراشد ومواقفه الإيجابية، كبعد أخلاقي داعم ومعزز لمكانته العلمية..
ثالثا- القدوة: نظام لشحذ الفاعلية
من العوامل المساعدة في تشكيل شخصية الإنسان وتنمية وازعه الحضاري، مصاحبة أهل العلم والفضيلة، ولقاء أصحاب التجربة والخبرة. إذ يشكل هؤلاء موردا هاما لاكتساب مزيد من المعارف والخبرات، عبر الاحتكاك بهم ومجالستهم ومحاورتهم، ولهم تأثير عميق في بناء توجهاته ومساراته المستقبلية.
وقديما كان علماؤنا يفاخرون بكثرة وتنوع شيوخهم وأساتذتهم، لأنها كانت علامة على تميزهم في اختيار قدواتهم، وبيانا لمرجعيتهم وأصولهم في التفكير والتدبير والتعبير.
وجامعاتنا اليوم مطالبة بتنمية هذا الوازع، والتحفيز عليه بشتى الوسائل، وجعله من أولويات التكوين الأكاديمي، وعدم تركه لاجتهادات الأفراد دون رعاية أو مواكبة أو تنظيم.
فالطلبة في حاجة إلى معرفة أهمية القدوة في حياتهم، ودورها في تطوير قدراتهم وتنمية مواهبهم وتحديد توجهاتهم. كما أنهم في حاجة إلى من يساعدهم في حسن الاختيار، وبيان معايير ومحددات النماذج التي تستحق الاقتداء والتأسي، ومخاطر التأثر بشخصيات سيئة في قيمها وأفكارها وتجاربها، وما يؤدي اتباعها من متاهات الحيرة والضياع.
إن من شأن اهتمام جامعاتنا بنظام القدوة، لما تتوفر عليه من كفاءات وإمكانات، وجعله وسيلة لشحذ فاعلية الطلبة نحو تحرير إرادتهم وتجديد وعيهم، أن يسرع عودتنا المنتظرة إلى ميدان النهضة والفعل الحضاري، بِمُثُل حقيقية ونماذج ناجحة وقيادات ملهمة..
وفي الختام نؤكد أن الجامعة مطالبة بدعم الطالب، في تحقيق حاجاته الأساسية لتكوين شخصيته المتوازنة، من أفكار أصيلة وقيم نبيلة واهتمامات عالية ومهارات معينة وعلاقات محفزة.