البناء الاقتصادي للأسرة.. بين الترشيد والتداين – أشرف دوابة

يعد البناء الاقتصادي للأسرة المسلمة من العوامل الرئيسة لتماسكها واستقرارها، واستمرار المودة والرحمة فيها.

وقد كشف واقعنا المعاصر عن الانفلات الاستهلاكي للأسرة، وانتشار ثقافة التداين، حتى انفصمت عرى الكثير من الأسر المسلمة، وأظهرت العديد من الإحصاءات في الدول الإسلامية تنامي نسب الطلاق بصورة متسارعة حتى جاوزت 75% من الأزواج الجدد، ويرجع ذلك في الأساس إلى البعد المادي بتحميل الزواج من الأعباء المادية ما يجعل الزوجين بعد الزواج مكبلين بقيود الديون، وقديماً أوصت سيدة صالحة ابنتها قائلة: لا تكلفي زوجك إلا ما يطيق طبقاً للأحوال، وارفعيه بيدك عن مواطن الضعف والضيق؛ فحمل الصخور أخف من حمل الديون.

إن الأزمات المالية المتلاحقة للأسر المسلمة التي تقضي على ما تبقى فيها من حب وود، تتطلب من تلك الأسر أن تسارع بالوقوف مع نفسها، ومدارسة أمورها الاقتصادية، وأخذ القدوة ليس من الجيران المسرفين أو الأقارب المترفين، بل من سيرة النبي الكريم وأصحابه الأخيار المقتصدين.

أسرة تحوطها الملائكة

ولنعطِ مثلاً هنا عن نموذج لأسرة مسلمة طيبة مباركة كيف تعاملت مع حياتها الاقتصادية برشادة، وعاشت تحمل في بيتها الغنى النفسي مع الرشد المالي، هي أسرة الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه.

فقد تقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لخطبة السيدة فاطمة، أحب بناته إلى قلبه، وكان علي فقيراً في ماله، ولكنه كان غنياً بإيمانه، وتقواه، وجهاده في سبيل الله، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة برغبة علي في الزواج بها، فسكتت علامة على قبولها ورضاها، فزوّجها النبي صلى الله عليه وسلم علياً، وكان صداقها درْع علي رضي الله عنه الذي لم يكن يمتلك شيئاً غيره، والذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهداه له من قبل.

يقول علي رضي الله عنه: “لما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعدت رجلاً صواغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين وأستعين به في وليمة عرسي”. (رواه البخاري)

لقد سعى علي إلى العمل بكل جهد وإخلاص حتى يحقق ما يرجوه في زواج سيدة نساء أهل الجنة، وزف علي وفاطمة زفافاً مباركاً هادئاً، ليس مبهرجاً بالترف والإسراف، ولم يعرف ما تعرفه بعض الأسر المسلمة في زماننا من بناء أول يوم في بيتها على المعصية، من خلال ما نراه من تعرّ واختلاط، وتفاخر بالراقصين والراقصات والمغنيين والمغنيات، ومسابقة العروس عروسه في الرقص أمام الرجال والنساء دون حياء أو وقار.

لقد كان زفاف علي وفاطمة تحوطه الملائكة بذكرهما ومن حولهما لله، وقد ارتبط قلباهما بحب رباني بجمْع بينهما في الدنيا والآخرة، وانتقلا إلى بيت الزوجية الذي لم يعرف أثاثاً ذات تحف نادرة ورياش فاخرة وأصداف غالية، وإنما عرف أثاثاً بسيطاً في الظاهر ولكنه يحمل قلبين كبيرين (باب مدينة العلم وسيدة نساء العالمين)، قلبين لا تخدعهما المظاهر الفانية ولا الشكليات الزائلة، فكان جهازهما الذي بعثه لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم “خميلة ووسادة من آدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين”.(رواه أحمد)

وكانت السيدة فاطمة تقوم على خدمة زوجها ورعاية شؤون البيت، وكان علي يقسم عمل البيت بين أمه فاطمة بنت أسد، وزوجته فاطمة رضوان الله عليهما، فيقول لأمه: اكْفي فاطمة بنت رسول الله سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك الداخل: الطحين والعجين.

كما كان علي يقتدي بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعاون أهله في تدبير شؤون البيت، وقد قال لفاطمة ذات يوم: “والله لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري، قال: وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “ما جاء بك أي بنية؟”، قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال علي: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتيناه جميعاً، فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله، والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة رضي الله عنها: قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم”، فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطت رأسيهما تكشفت أقدامهما، وإذا أغطيا أقدامهما تكشفت رأساهما، فهبا للقائه، فقال: “مكانكما”، ثم قال: “ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟”، قالا: بلى، فقال: “كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام، فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين”، قال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم”. (رواه أحمد)

يا الله! أي حياء هذا من جانب البنت! وأي عدل هذا من جانب الأب الذي لم يسمح لنفسه أن يستبيح المال العام، ورفض أن يعطي فلذة كبده فاطمة وابن عمه زوجها علياً خادماً رغم ما يراه أمام عينيه من فقرهما حتى عجز اللحاف أن يغطي جسدهما! ومع ذلك فإنه بحنان الأب ودفئه ورحمته يسعى إليهما في عقر دارهما ويشاركهما في مضجعهما ويرشدهما إلى خير زاد، إلى المداومة على ذكر الله، ذلك الذكر الاقتصادي، فما تركوا ذلك الذكر منذ تعلماه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفاهما الله ما أرادا، وتغلبا على المصاعب، وهزما المتاعب، وعاشا عيشة سعيدة هنيئة رزقا فيها بالبنين والبنات ورفرفت على بيتهما السكينة والوئام.

إن هذه المواقف الربانية ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فيا ليت أسرنا تعود إلى هذا الإرشاد النبوي الكريم ليكون السبيل لحل مشكلاتها، والخروج بها من أزمتها الاقتصادية التي ما تفتأ أن تأكل الأخضر واليابس في بلادنا.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى