البقالي يكتب: “الفقهاء والفلاسفة في الغرب الإسلامي” عِشرةٌ امتدت لثلاث سنوات
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات… أخيرا، وبعد ثلاث سنوات من الاشتغال، وفقنا الله سبحانه في قسم الإنتاج العلمي والفكري إلى إصدار كتاب “الفقهاء والفلاسفة في الغرب الإسلامي في القرنين السادس والسابع الهجريين: جدلية القبول والرفض” لأستاذنا الجليل والداعية المجاهد الأمين مصطفى بوخبزة حفظه الله ونفع له..
والكتاب في أصله أطروحة تقدم بها أستاذنا لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة سنة 1986م، وقد بقيت حبيسة خزانة الأستاذ منذ ذلك الوقت إلى أن نبهني إليها السيّدُ السبّاق لغايات الحمد، والمُهيب بمقامات الفضل أستاذنا الحبيب المقرئ أبو زيد الإدريسي بارك الله في علمه وعمله، إذ كان قد اطلع عليها وهي مسوّدة ما تزال، ووعدني بأني سأجدها مفيدة وجديرة بالنشر .. وفعلا اتصلت بأستاذنا الذي أبدى زهدا في الأمر واستكثارا على نفسه أهمية النشر، وغلب تواضُعُه في نفسه معرفَتَه بما حصّل من علم نافع في رسالته وفي غير رسالته، وما درج عليه ونشأ في أسرته الشريفة المباركة من علم وذكر، يكفيه منه تلمذته الممتدة امتداد عمره على عالم تطوان وعلمها عمّه المشمول بالرحمة والغفران الفقيه المحدث والمؤرخ النسّابة والأديب الكاتب سيدي محمد بوخبزة العمراني رحمه الله ..
ولكن الأمر غير مستغرب ممن نشأ في حضن التصوُّنٍ والدين والعفاف والعلم، يستصغرون -لفرط ما وقفوا عليه من عظمة العلم وما رأوه من أخلاق رجاله- علمهم وعملهم .. في حين تجد المشرئبة الطارئين تسبق بجاحتُهم اجتهادَهم حتى صاروا قرحة في جبين العلم وأهله ..
المهم .. بعد لأي رضي الأستاذ، فباشرنا العمل على الكتاب .. فأحلته بداية على مجموعة من الاخوان في القسم ليروا رأيا أوليا وكنت منشغلا حينها بغيره، ثم وفقني الله تعالى لمباشرة العمل عليه فوقفت على عمل جليل القدر مشكور الجهد، وأسفت أسفا شديدا أن لم يقدّر للكتاب أن يخرج في حينه، لأنه لو تم لكان له أثر أي أثر على الساحة الفكرية الإسلامية والعربية في وقت كانت تشح فيه أمثال هذه الدراسات الرصينة بين أيناء الحركات الإسلامية على وجه الخصوص، ولكن قدر الله وما شاء فعل .. والخير حيث قدّر ..
والكتاب على ما يمكن أن يجد فيه القارئ غير المتخصّص من دخول في دغل بعض القضايا الكلامية والمسائل الفلسفية إلا أنه في عمومه سهل المأخذ سائغ المشرب، والقارئ واجد لا محالة فوائد جمة في ثناياه .. وهو على ما يمكن أن يجد قارئ آخر من شدّة في لهجة الخطاب أحيانا مبعثها الأجواء السجالية التي وسمت الخطاب الإسلامي في أواخر ثمانينات القرن الماضي وبدايات تسعيناته إلا أنه لن يلبث أن تقر عينه بعدالة استاذنا الكريم وإنصافه وحرصه على الالتزام بالموضوعية ما أمكن .. وهو أيضا على ما يمكن أن يجد القارئ المتخصص من معارف قد فقد بعضُها جدّته، إلا أنه لا بد واجد فائدة في التعرف على منهج الاستاذ الذي لم يشتهر بيننا باحثا وكاتبا بقدر ما اشتهر داعية اسلاميا ومناضلا سياسيا ومجاهدا في ابواب الخير والعمل الاجتماعي، فان هذا القارئ يقف على قوة الطرح وسعة الاطلاع والاجتهاد في الإحاطة بالموضوع، ناهيك عن جميل التأريخ الفكري للحياة العقلية في الغرب الإسلامي والأندلس والمغرب الأقصى بصفة خاصة، والتحلي بالموضوعية والإنصاف إلى حد كبير في طرح قضايا الخلاف، كل ذلك في لغة سهلة ممتنعة رصينة رشيقة تنم عن محتد علمي صيّن، وذكاء فطري بيّن.
يقدم لهذا العملِ الجليلِ المُهيبُ به أولَ الأمر، وهو أستاذنا الألمعي المقرئ أبو زيد الإدريسي .. ولهذا التقديم قصة طريفة أحكيها.. وذلك أني طلبت منه تقديم العمل فتحرج ولم يظهره، ولكنه قال “لولا أنه السي الأمين لما أمكنني ذلك، فأنت تعلم شغلي وضيق وقتي” ثم قال “لقد بَعُدَ عهدي بالكتاب فقد قرأته منذ أكثر من ثلاثين عاما، فلو تبعث إلي بالمقدمة والخاتمة والفهرس، فإني إن اطلعت عليها تذكرت ما قرأته قديما” ففعلت وأرسلت إليه بما طلب. فلما كان من غد، اتصل بي على الواتساب وأملى علي مقدمته وهو مستلق في المقعد الخلفي لسيارة أحد الإخوان في الطريق بين الرباط والبيضاء .. وقد كان عجبي كبيرا وأنا أفرغ على الحاسوب ما أملاه؛ فإني وجدته فيه كأنما يقرأ من كتاب، ما خلا بعض أمور قليلات كان يجب أن يرجع إليها ببعض الأساة.. ثم بعثت بها إليه فزاد ونقص ثم دفعنا بالكل إلى المطبعة..
مما يثير في الكتاب اعتماده وإحالته على مراجع وكتّاب لم يكونوا معروفين ولم تكن معروفة (أو على الأقل غير مشتهرة) كتبهم في وقت كتابة البحث .. ويبدو أن مكتبة العمّ العالم الجماعة للنوادر سيدي محمد بوخبزة رحمه الله لها دور في ذلك.. ناهيك عن وجود السي الأمين في مصر المحروسة بخزائنها العامرة وأهل العلم فيها المعروفين بحسن الضيافة في العلم وسعة الصدر للطالب المتعلِّم، وفي وقت مخضرم كانت مصر فيه ما تزال تنعم بكثير من “المصريين الكبار” أحياء يرزقون، فكانت اللقيا معهم وكان الجلوس إليهم والانفتاح عليهم.. وهي قصص يرويها لك السي الأمين فلا تملّ؛ خصوصا، وأنه يذكرها لك بتفاصيلها وأسماء شخوصها فتكاد ترى القاهرة وشوارعها وأزقتها، وتكاد تجلس إلى رجالاتها .. من قبيل ما يحكيه عن زياراتهم لبيت أبي فهر محمود محمد شاكر رحمه الله، وما يحكيه عن “شيبة الحمد” (وقد ذكره في كلمة الشكر في أول الكتاب)، وهو صاحب المكتبة الخاصة المفتوحة في وجه طلبة العلم والباحثين يغشاها العرب والمسلمون وغير العرب وغير المسلمين .. وغير ذلك من القصص التي ليس هذا محل ذكرها .. ولا محل لذكرها على الحقيقة إلا أن يوفق الله أستاذنا لكتابة مذكراته الثرة الغنية المفيدة الممتعة .. فعسى أن يوفق الله تعالى أستاذنا إلى إخراجها قريبا …
ومما أشكر عليه الله في العمل على هذا الكتاب دون غيره، أن الكتاب جعلني أقرأ كثيرا وأتعلم كثيرا في خلال تحقيق مراجعه التي كان كثيرٌ منها لم يطبع حينها أو لم يحقَّق بعد، أو حُقِّقَ ولكن جاء بعد ذلك من حقَّقَهُ تحقيقا أكثرَ ضبطا وأحسنَ عملا .. ولقد محوتُ أمِّيَّتي في مواضيع شتَّى، وعرفتُ أسماء كتُبٍ وأعلام كنتُ أجهلُها؛ فالحمد الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .. وقد زدت معرفة ببعض الرجال العظام الذين ربما كنت أعرف أسماءهم وعناوين أعمالهم ولكن أجهل أقدارهم وأقدار أعمالهم، حتى يسَّر الله هذه الفرصة .. وكم كان يأخذني ومن معي الطرب أثناء الضبط والمراجعة حتى ينسينا ما نحن فيه من العمل على الكتاب، فنهيم في هذه المراجع غرفا من البحر أو رشفا من الدِّيَم .. وأول لذة علم يعرفها المرء تلك التي يجدها عند معرفته بجهله..
سوف يحملك هذا الكتاب على جناح الزمن إلى بدايات الفتح الإسلامي للأندلس والغرب الإسلامي لتعيش الإرهاصات الأولى للحياة العقلية هناك .. ثم لن يلبث حتى يتقهقر بك إلى ما قبل سقراط ثم ينزل بك فينيخ بك مدة مع أفلاطون ثم يسلمك إلى أرسطو .. ثم ينقذف بك إلى ابن باجه وابن طفيل وابن رشد ومن كان في زمانهم وما كان في أيامهم .. ولسوف يجلس بك عند ركبتي القاضي أبي بكر المعافري وابن الخطيب وغيرهما .. وقد يحملك إلى عدوة المغرب ليعرِّفَكَ على من لم يشتهر من جهابذة المتكلمين كالمكلاتي، ناهيك عمن اشتهر من أهل العلم والفقه والحديث والكلام.. وأنت في كل ذلك لا ترى في النهج عوجا ولا أمتا .. وقبل أن يوَدِّعَكَ يُودِعُكَ خلاصاته في صدق ووضوح بلا مواربة ولا تحايل.. ولربما اقتصر عليها الكسول واكتفى بها عن الدخول في غمار الرسالة .. ومتى كان شم الثمرة مغنيا عن لذاذتها؟ ولكن كل واد إنما يسيل بقدره ..
بقلم فيصل الأمين البقالي