البعد الجُواني في الإسلام في فكر طه عبد الرحمن – شيروان الشميراني
تمهيد
في هذا البحث أتحدث عن البعد الروحي في الإسلام وكيفية خوض الصراع به في عالمنا المادي المتقلب، و دوره في إحياء الأمة عطائها الحضاري كما يصيغها المفكر المغربي الأستاذ طه عبد الرحمن .
لن أتعرض لبعض القضايا الفكرية المدرسية التي يخوضها ويرد عليها من خلال دفاعه أو توضيحاته للتصوف من الغربيين أو من الداخل الإسلامي كما يفعل مع ما يسميها بالسلفية الوطنية أو النجدية ..فهو بحث مختصر مفتاحي هادف، إضافة إلى الغاية الأساسية منه يساعد على فهم فلسفة الأستاذ عبد الرحمن للطالبين.
يتكون البحث من مقدمة وثلاثة محاور وخاتمة
المقدمة
إقبال طه على التصوف
يقول إنه لجأ إلى التصوف اختيارا من أجل القرب من الله والترويض الروحي ..
(لا أرى في الدين إلا تصوفاً، لأن العمل الديني أصلا وأصالة عبارة عن تخلق والتصوف إنما هو اسم اختص بالدلالة على طلب كمال الخلق)، ولهذا يقول عن نفسه أن التجربة الروحية وسعت آفاقي توسيعا كاملا، وزادت في مداركي، وإلى رفع القيم الأخلاقية عندي إلى قيم جمالية ..وأنها نقلتني من إيمان الكلفة و المشقة و الثقل إلى إيمان المحبة الحلاوة، والعالم تحول عندي إلى بيت من بيوت الله، بحيث أصبحت أرى الأشياء من حولي وكأنها تحمل أسرارا إيمانية وكل شيء تعبر بلغتها عن إيمانها والحركة صارت مثابة سجود والسكون بمثابة خشوع ..
المحور الأول ..
الشمولية
فهي من صفات هذا الدين ومن خصائصه الأبرز، يرى أستاذنا مع أن الروح موجودة في داخل الإنسان لكن التربية الروحية لا تقتصر على ما بداخل الإنسان، بل تتجاوز إلى العقل المعرفي والعمل أو الأخلاق بناء على مبدأي الشمولية والتكامل، بمعنى أن البعد الروحي يستهدف الإنسان بكليته، ولا يبقى محصورا في التعبد النفسي الداخلي، فالروح حاضرة في التربية النفسية والعقلية والمعرفية وما تثمره من سلوك باعتبار الإنسان المسلم يحمل رسالة وجودية لا يحملها غيره، النظرية التربوية الإسلامية تستهدف استكمال إنسانية الإنسان لتحقيق جملة من المقاصد والمعاني والقيم والمثل التي حملها دينه إلى الإنسانية وهي ( التسديد) و التسديد بحاجة إلى معرفة الطريق للوصول أو حتى يتحقق ( التأييد) الإلهي….
وهو الطريق المؤدي للهداية الموصلة إلى القبلة ….
ومن هنا عندما يتحدث عن الصحوة الإسلامية أو اليقظة الإسلامية التي كانت أوصافا منتشرة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، يقول عنها أن لا سبيل إلى حصول التكامل في اليقظة الإسلامية إلا بطريق ينفذ إلى أعمال التجربة الإيمانية ويبلغ الغاية في التغلغل فيها حتى إذا أدرك الداخل فيها نصيبا من التغلغل في التجربة الإيمانية كان حاملا على الاتصاف بمكارم الأخلاق أو على التخلق ….
المحور الثاني
إحياء الروح
(1)
إن تجديد هذا الإنسان في المتعلم المسلم يقتضي إحياء روحه …
إن النظرية التربوية الإسلامية أول ما تعمل عليه في إطار استهداف كل الإنسان هو إحياء روحه، الروح في الإنسان هي التي انشعبت منه كل القدرات والملكات التي يتميز بها فإذا نحن أعدنا تربية هذه الروح على هديٍ من الدين، كفانا ذلك الاشتغال غير المعلوم النهاية ولا موثوق النتائج بإعادة مختلف هذه الاستعدادات والملكات التي أهال عليها التاريخ أكداسا من الترسبات والغشاوات، إذ إن الروح متى تدفق فيها الإيمان وتاقت إلى كمال العمل تحركت الدواعي والجوارح على إثرها على مقتضى الإيمان الدفاق والعمل التواق..
وهنا يتعجب من تداعي الكلام في أوساط الباحثين عن صلة الإنسان بالوجود والحياة والكون، طلبا لاسترجاع حق الشهود، ولا تثار في ذات الوقت كيف نجدد صلتنا بالحق سبحانه، ولا كيف نتوسط بهذا التجديد الروحي في تحقيق الوجود فضلا في تحقيق الشهود، فالروح وفق تعبيره هي القبس النوراني الذي يحقق صلتنا بالخالق جل وعلا، ومتى صح هذا صح أن تجديد هذا القبس هو الذي يجدد صلتنا بالله ونحن أحوج ما نكون الآن إلى هذا التجديد الروحي، والتربية الروحية هي التي تعيد الدين إلى المجتمع..
(2)
إن هذا الإحياء الروحي يصطدم بمبدأ جاءت به الحداثة و هو (التفريغ)، أي فصل قوى الإدراك لدى الإنسان عن مصدرها الأصلي الذي هو الروح….أو القلب باعتباره محلا للروح، تفريغ القلب عن كل إحساس ملكوتي عند انجاز الأعمال، أو ما يعبر عنه الأستاذ مراد هوفمان بخواء الذات في كتابه خواء الذات والأدمغة المستعمرة، وعند طه عبد الرحمن إن الإدراك العقلي والسمعي والبصري والشمي كلها من أعمال القلب …
وفي معالجة هذا التفريغ الذي ضرب الإنسان نتيجة الحداثة أو المدارس الفكرية والفلسفية التي تخاطب بعدا واحدا في الإنسان، يأتي بما يسميه ب ( الربط)، ومقتضاه أن فعل إدراكي موصول بالقلب، ما يعني أن الصياغة الشاملة الجديدة للإنسان لا يمكن الوصول إليها إلا بإعادة صياغة القلب أو الروح بما يحدث في الإدراكات تحولا جذريا ينقلها من الموت الذي تسبب فيه الانقطاع إلى الحياة التي يكسبها الاتصال، أو قل لا يمكن التوصل إلى إعادة صياغة الإنسان في وقتنا إلا بالعمل على إعادة إحياء القلب بما يحميه من الحياة العبثية والتيه التي جاءت به الحداثة والتي كانت موجودة أصلا عبر التاريخ من خلال المدارس الإلحادية التي تقطع صلة الإنسان بكل ما هو غيبي…
(3)
النقد الإيماني
مفهومه أن يأتي في مقابل النقد التاريخي وهو النقد الذي مارسه من هم خرج الدائرة الإسلامية وأخرجوا المنظومة التربوية الإسلامية من عالم الدين فوجب اللجوء إلى النقد الإيماني لكل المنظومة التربوية لإعادة الإنسان إلى عالم الدين، بمعنى النظر إلى كل الأمور وكل مفاصل التربية من منطلق إيماني، أي مدى تحقق الإيمان أو حضوره في هذا الجانب أو ذاك، ما يحقق التأصيل الإيماني للفعل والتأصيل الإيماني من منظور طه عبد الرحمن له علاقة مباشرة باستئناف العطاء الحضاري للأمة الإسلامية، لأن الإسلام ليس رسالة يتدين بها المسلم كما يتدين غيره بغيره من الأديان بل هو رسالة وجودية لا يحملها غير الإنسان المسلم ..
وليس المقصود بالنقد الإيماني مطلقا هو التعرض للعقائد والمسالك الشخصية بل هو نقطتين :
1 – بيان حقيقة الانفصال في المعاني التربوية المنقولة عن الإيمان
2 – وكيفية إعادة الاتصال بين تلك المفاهيم بما يجدد فاعلية الحقيقة الدينية
وفي هذا السياق ينتقد غياب مصطلحات دينية في الحقل التربوي العام، من مثل ( الحكمة والتذكر والتدبر والتفكر والتطهر والهدى والضلال والبصيرة والنور والظلمة والغشاوة والصراط، ويركز على مفهوم التزكية) ويصف غيابها بالشنيع لأنه الأصل في السياق القرآني وأدل على المفهوم المقصود من التربية على تعاليم الدين (يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)..
المحور الثالث
ألتجديد الكامل والعطاء الحضاري
يرى طه عبد الرحمن أن الصياغة الشاملة للإنسان وتجديده الكلي المبني على إعادة إحياء روحه، تعني أن كل أبعاده متأثر بهذا الإحياء ( عقلا وسلوكا ومعرفة) فلا فصل بين القلب والعقل والعلم والروح والفكر والسمع وحاسة الشم وكل ما يأتي به المرء في حياته …
فيصف العقل المشبع بالفقه والفكر الإسلامي بالعقل الشرعي .. ولو لم يحدث القطع بين العقل والقلب لكان للعقلانية شأن آخر في تاريخ الفكر الإنساني عامة أو في تاريخ الفكر الإسلامي خاصة، والقطع بين الاثنين جاء نتيجة للخطاب التربوي المعلمن.. فالتجديد الروحي يقتضي من الإنسان المسلم توسيع آفاق عقله وتثبيت إرادته.
وإن الإحياء الروحي ينفي عن الإنسان الغرق في التأمل المجرد الذي يضمحل معه الواقع التربوي، إنما يتخير من الأسس ما يمكن أن ينهض بتحويل القواعد والمعايير إلى ممارسات سلوكية) كتابه ( الحداثة وسؤال الأخلاق)..
ويرى عبد الرحمن أن أسماء الله الحسنى لها الدور الأهم في صياغة منهج روحي شامل متكامل في المسار الجديد الكلي للإنسان وربطه من جديد بالله سبحانه وتعالى، وفصل ذلك في كتابه ( العمل الديني وتجديد العقل) ..
الخاتمة
هذا المنهج الإسلامي الروحي الذي يعبر عنه فلسفيا بالتصوف، ينتج الإنسان الكوثر صاحب الخير والعطاء الكثير ليحل محل الإنسان الأبتر الذي تضيق لديه دائرة الإدراك إلى جزء واحد، والمنهج هذا يجب أن يكون حياً حتى يتمكن من الثبات ومواجهة مختلف تقلبات السياقات الفكرية والتطورات المجتمعية.