مولاي أحمد صبير الإدريسي يكتب: 1446هـ سنة القادة
على مدى قرون، رصّدت الأمة الإسلامية تاريخا حافلا بالمحطات المبهرة، والمشاهد الخالدة، هذه الأحداث والمحطات والمشاهد سيتولى تدوينها تباعا علماء مؤرخون أسسوا مناهج صارمة، وتبنوا أساليب متباينة ميزوا بهابين الصحيح والسقيم، والحقيقي والمكذوب والموضوع.
وتوالى التدوين في مجال التاريخ، فكانت النتيجة كتبا كثيرة ومصنفات عديدة حفظت ملاحم وبطولات، ورصدت هزائم وخيبات وانكسارات، لكنها جميعا شكلت مصدرا للاعتبار، وحوافز للإقلاع، وبصائر للتربية والتوجيه، فبوب مؤلفوها أبوابا، وسطروا فصولا صارت مراجع تعرّفنا من خلالها على: سنة التدافع، والصراع بين الحق والباطل، ومداولة الأيام بين الناس، وأسباب هلاك الأمم، ودورالعدل في دوام الملك أو زواله، وأسباب استحقاق النصر والتمكين…
وضمن سلسلة منتظمة من الأحداث والمحطات، شكّل “طوفان الأقصى”حلقة استثنائية أبهرت العالم بصمودها وتضحياتها، وأدهشته بانتصاراتها وبطولاتها، فانضافت إلى قائمة محطات فارقة من تاريخ أمتنا، حُق لنا أن نؤرخ بها، ونحيل عليها، بعد أن حازت كل المقومات لتصبح بحق مرجعا référence”” آية في الغنى، وآية في التنوع حُق للمؤرخين والباحثين أن يحيلوا عليها كما يحيلون على محطات مماثلة في تاريخ الأمة بل في تاريخ الإنسانية.
تعارف المؤرخون على ربط فترات زمنية معينة بحدث فارق، يجعلون منه اسما يحيل عليه، بل نجد هذا العرف متغلغلا في الثقافة الشعبية، حيث يتعارف الناس على الإحالة على حدث ما بما اشتهر به، ففي تاريخ المغرب نجد مثلا: “عام البون” و “عام الجوع” و ” عام إيرني” و” عام التيفوس” وهي جميعا أسماء ونعوت تحيل على أحداث فارقة في التاريخ القريب أو البعيد.
ويحفل التاريخ العربي الإسلامي بمثل هذه الإحالات، حيث نجد المؤرخين يطلقون لفظ (عام) أو (سَنَة) أو (يوم) على محطة من المحطات الفارقة في تاريخ الأمة، فيقولون: “عام الفيل”، و”عام الحزن” و”يوم بدر”، و”عام الرمادة”، و”عام القرّاء”، و”عام الفقهاء” الخ، ولأن الوقوف يطول بنا مع هذه المسميات وما تحيل عليه، سأكتفي بـ”عام القرّاء”، و”عام الفقهاء”، وأخلص إلى “عام القادة” الذي يحيل على طوفان الأقصى.
1 ـ 11هجرية سنة القرّاء:
ارتبط هذا الحدث بمعركة اليمامة أو معركة عقرباء عام 11 هـ من الهجرة / 632 م وهي من أشهر معارك حروب الردة في عهد أبي بكر الصديق، وكانت بين جيش المسلمين وبني حنيفة الذين ناصروا مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، وأقنع أتباعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشركه في الأمر، فوجّه الخليفة أبو بكر الصديق عكرمة بن أبي جهل لقتاله، ولكنه لم يستطع الصمود أمام جيش مسيلمة، فتراجع إلى أن بلغه المدد من شرحبيل بن حسنة وخالد بن الوليد في جيش عظيم، وحقق المسلمون نصرا مؤزرا، واستشهد يومها جمع غفير من الصحابة القرّاء، فسميت هذه السنة بـ ” سنة القرّاء”، ولأن الحروب لا تخل من نفحات، فقد كان من أشهر نفحاتها وجميل بركاتها فكرة جمع القرآن وتدوينه باقتراح منسيدنا عمر بن الخطاب الذي ما انفك يحض الخليفة أبا بكر الصديق ويحثه ويشجعه على تبني الفكرة إلى أن شرح الله لها صدره، فكانت خطوته تلك الفرصة الأولى لجمع القرآن، وكان الدافع إليها الخوف من أنيذهب القرآن بذهاب القرّاء الحفظة.
2 ـ 94 هجرية سنة الفقهاء:
أطلق المؤرخون “سنة الفقهاء”على سنة 94 للهجرة، وسميت بهذا الاسم لكثرة مَنمات فيها من فقهاء المدينة المنورة.وقد أشار إليها عدد من المؤرخين منهم ابن جريرالذي قال: “وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء؛ لأنه مات فيها عامة فقهاء المدينة، مات في أولها علي بن الحسين زين العابدين، ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن جبير… [1]“
وقال صاحب الوافي بالوفيات: ” وهذه السنة كانت تسمى سنة الفقهاء لأنه مات فيها جماعة وهؤلاء الفقهاء السبعة كانوا بالمدينة في عصر واحد وعنهم انتشر العلم والفتيا في الدنيا”[2]، وقد نظم أحدهم أسماء هؤلاء الفقهاء في بيتين اثنين تسهيلا لحفظها فقال:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر ★★ روايتهم عن العلم ليست خارجة
فقل هم عُبَيْدُ الله عروة قاسـم ★★سعيد أبوبكر سليمان خـارجة
3 ـ 1446هـ عام القادة:
بطولات وملاحم ” طوفان الأقصى” لا عد لها ولا حصر، والوقوف عندها مجتمعة أو متفرقة لا تحيط بها الأسفار فكيف بالمقال، وعليه، سأقف في هذه العجالة عند حدث فارق أعلن عنه أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام مساء الخميس 30 يناير/كانون الثاني 2025، يعلن فيه “استشهاد قائد هيئة أركان كتائبها محمد الضيف وثلة من المجاهدين الكبار من أعضاء المجلس العسكري للقسام”[3] حيث اكتملت بهذا الحدث مشاهد البطولة والشهامة والتضحية، التي سطرها قادة كبار قدموا أرواحهم فداء للأقصى وفلسطين، على اختلاف مواقع الاستشهاد، وتنوع أساليبالاستهداف.
هذا الحدث لوحده كافليجعل ملحمة طوفان الأقصى واحدة من المحطات الفارقة في تاريخ الأمة الإسلامية، وكاف لننحت له اسمَ “عام القادة” أو ” سَنَة القادة” على غرار ما تعارف عليه المؤرخون بإطلاق (عام) أو (سنة) أو (يوم) على محطة مماثلة قدرا وقيمة. ولعله أصبح في الإمكان اليوم إدراج حدث استشهاد القادة الكبار: إسماعيل هنية وصالح العاروري ويحي السنوارومحمد الضيف ومروان عيسى وغازي أبو طماعة ورائد ثابت ورافع سلامةوأحمد الغندور فضلا عن حسن نصر الله وقادة كبار لحزب الله… بـ ” عام القادة” أو “سنة القادة”.
على سبيل الختم:
لقد سطرت المقاومة الفلسطينية في طوفان الأقصى أروع الملاحم، وفضحت فيه همجية الكيان الغاصب الذي ركب غروره من جديد، وركن إلى حلفائه الغربيين، فولغ في دماء المدنيين، وهدم على رؤوسهم المساكن والمؤسسات، فقتل البشر ودمر الحجر واقتلع الشجر، دون أن يحققأهدافه التي أعلنها في اليوم الأول. وبذلك أصبح طوفان الأقصى وما تلاه من حرب مدمرة مادة للباحثين والمؤرخين لن ينضب معينه ولن تنقضي عجائبه. ولعل إطلاق ” سنة القادة” على سنة 1446هـ واحدة من أروع هذه العجائب التي ستذكرها الأجيال اللاحقة بإذن الله.
مولاي أحمد صبير الإدريسي عضو المكتب التنفيذي للحركة
***
[1] ـ أنظر: كتاب كناشة النوادر – سنة الفقهاء – المكتبة الشاملةص84
[2] ـ نفس المرجع والصفحة
[3] ـ قنوات ومواقع إخبارية يوم 30 يناير 2025م