الإدريسي يكتب: في قيمة التسامح – 16 –

ثمّة خلط كبيرٌ عند عموم الناس بين قيمة العَفو وقيمة التَّسامح، فعندما يخطئ شخص في حق شخص آخر، ويعتذر المخطئ، فالقيمة من الطرف الثاني هو العفو، لأن العفو تجاوز الإساءة والصفح عن مرتكبها واسقاط العقوبة مع القُدرة على إنفاذا، أملا في الإصْلاح وطمعا في الأجر، وأكيد  أن النَّاس يفهمون بأن هذا السلوك عبَارة  عن تسامح، بيد  أن  التسَامح  هو اليُسر في المعاملات، والسُّهولة  في العلاقات، والليونة  في التصَرفات، والقدرة على الانتقال من التّعصب إلى التراضي و من التّنازع إلى التوافق، دون أن  يتنازل المُتسامح عن عقيدته و مبادئه، وبالتالي  فالتسامح  أشمل  من العفو، لأن  التسامح يكون مع المخطئ وغير المخطئ، أما العفو فيكون مع المخطئ فقط، وبطبيعة الحال  فالعلاقة بين العفو والتسامح علاقة متلازمة ومترابطَة، لكأنهما عملة واحدة فالذي لا يتسامح لا يعفو.

وعندما نبحث في القرآن الكريم فإننا سنجد قيمة التّسامح طَافحة بالمعنى دُون المبنى، ذلك أن القرآن الكريم دعا إلى تمثل قيمة التسَامح بماهي رحمة ولِين وسِلم وتقبل للآخر وتطاوع وتعايش وٍرفق ويُسر، يقول الله تعالى: ﴿فبمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ سورة آل عمران الآية: 159

 وفي كثير من القصَص القرآني نجد أن الشخصيات التي سيقت للاهتداء والاقتداء هي الشخصيات التي تمثلت هذه القيمة فكرا وسلوكا، قولا وعمَلا، ويمكن أن نُورد  نموذج التسامح الوارد في  قصة  ابنَيْ  آدم  عليه السلام ، حيث  نجد  ثنائية  التسامح  والكراهية، العنف والرفق، الحق والقوة، التطاوع والتنازع، والعدوانية والسلمية، يقول تعالى: ﴿واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين  لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين  إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين  فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين﴾ سورة المائدة الآيات:27-31.

إن ما ينبغي أن نُؤكد عليه أن القُرآن  المجيد حثَّ على تأسيس شبكة العلاقات الاجتماعية على قاعدة التفاهم والتسامح والتسامي، ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ سورة الأعراف، الآية: 199، وكانت  الأسرة هي المنطلق لهذا الأمر، لأنها نواة المجتمع، فبصلاحها  ينصلح  حال المجتمع، وبتماسكها  يتماسك، وبتسامحها  يتسامح، يقول تعالى : ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ سورة الروم الآية:21، ويقول  تعالى:﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ سورة  النساء، الآية: 19، إنها  دعوة  صريحة إلى  الالتزام بمبدأ المعاشرة الطيبة والألفة والمودة والتّراحم والتّواد والسّكن.

بل إن القرآن الكريم وسّع دائرة التسامح لتشمل البشرية جمعاء، من خلال التذكير بالأصل الواحد، وألا تفاضل بين البشر إلى بمكَارم الأخلاق ومعايير التقوى، التي تجسدها الآية العظيمة من سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ و َأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، الآية :13. هذا الآية تبين وتؤكد أن التعارف الذي هو ثمرة للتسامح، يسهمان معا في نشر قيم المَحبة والتعاون، ويؤسسان لتماسك المجتمع، وتحقيق التعايش بين القبائل والشعوب.

وبالتالي فلا بد أن ترتكز قيمة التسامح على مرتكز فكري متين، وأخلاقي مكين، تمنع من الاستغلال المقيت لهذه القيمة النبيلة، أو تحويلها إلى شعار طنان للاستعمال الإعلامي فقط، خصوصا ما تعرفه المجتمعات عموما، والعربية والإسلامية خصوصا، من نزوع نحو الانغلاق، وانتشار لداء الطائفية، ونار العصبية.

وبالرجوع إلى سيرة وسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام سنجد بأنه تمثل هذه القيمة في مسيرته الدعوية، وهو المتصف بأخلاق القرآن الكريم، استطاع أن يُخرج المجتمع المثالي، والذي يسميه البعض ب “عصر السعادة”، من براثن واقعٍ كانت تحكمه العصبية والثأر والجاهلية والتكاثر والتفاخر بالنسب والمال والفرس، فقد تعامل الرسول عليه السلام انطلاقا من المبدأ القرآني ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ مع  المخالفين  وغيرهم، سواء مع مشركي مكّة والعرب، أو مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وفي دعوتهم إلى الإسلام، لم يستعمل القوّة أو العنف أو الإكراه أو السيف، بل إن كل  حروبه مع مشركي مكَّة والعرب، وغيرهم، لم تكن إلا حروباً دفاعيَّة فقط، فعندما  هاجر إلى المدينة المنوّرة لم  يكره اليهود والمشركين القاطنين بها على الإسلام، ولم يجبرهم على ذلك، بل وقع معهم  وثيقة  المدينة التي تضمن حقوق  المواطنة  بغض النظر على  الدين أو  العرق  أو الجنس.

 ونحن في شهر رمضان المبارك نستحضر الحدث العظيم الذي وقع في السنة الثامنة للهجرة، والمتمثل في فتح مكّة، بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام ومشاركة حوالي عشرة آلاف صحابي، لم يُعمل الرسول عليه السلام  السيف في رقاب المشركين، ولم  ينتقم  منهم، رغم أن  الحرب  بينهم  سجال والأيام  بينهم  قتال، بل ضمن لهم  الأمن  وأعطاهم  الأمان مقولته الخالدة  التالية: “من دخل بيته كان آمنا ومن دخل  المسجد  الحرام  فهو آمن و من دخل دار أبي سفيان فهو آمن “، رغم أن  أبا  سفيان كان رأس الكفر والشرك وقتئذ، وقد كان شريكاً  ومحرضا على كلّ الحروب الّتي خاضها المشركون ضدّ المسلمين.

 وصدق الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام القائل: “إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق” رواه الامام مالك والقائل أيضا: “رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى” رواه البخاري.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى