الأعمال العظيمة في العشر الأولى من ذي الحجة
من رحمة الله بعباده أن كثر سبحانه مواسم الخير ونوعها، مواسم يغتنمها المؤمن لتصحيح ما فات واستدراك ما ضاع وتجديد العزم على إصلاح ما يأتي. ومن ألطف المواسم وأبركها وأحبها إلى الله تعالى العشر الأوائل من شهر ذي الحجة.
فبعد شهر رمضان المبارك وما حمله من القيام والصيام والتوبة وقراءة القرآن، يأتي هذا الموسم البديع ليعيش المؤمن نفحات أخرى من وحي ركن آخر عظيم من أركان الإسلام ألا وهو الحج، مع ما يحمله معه من قصص الإخلاص لله والتضحية في سبيله وتصحيح الإسلام له… إلى غير ذلك مما تَمَثَّل في حياة إبراهيم الخليل وما عاشه خاتم الأنبياء والمرسلين.
أولا: العشر الأوائل من ذي الحجة في القرآن الكريم
وهذا كتاب ربنا كتاب الخير والهداية ينبهنا على منزلة هذه العواشر وقيمتها فيقول سبحانه: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ.)، لنتأمل الآية الكريمة مُركزين على ثلاث مسائل:
الأولى: قَسَمُ الله بالليالي العشر، (وَلَيالٍ عَشْرٍ.) وقَسَمُ الله تعالى بأمر ما غرضه التنبيه على ما فيه من الفضل والعظمة. وقد ذهب عدد من المفسرين إلى أن المراد بها ليالي العشر الأوائل من ذي الحجة.
الثانية: قرن الله تعالى لهذه العواشر بالأوقات الفاضلة والأعمال العظيمة. بالفجر والشفع والوتر والليل… (وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ.). فالمراد بالفجر صلاة الفجر أو وقت الفجر أو فجر يوم النحر… والمراد بالشفع والوتر صلاتنا المعروفة أو الوتر هو يوم عرفة والشفع هو يوم النحر… وكل هذه المعاني تدل على قيمة الـمُـقْسَم عليه وفضله.
الثالثة: مَنِ الذي ينتبه إلى هذه الكنوز والفوائد؟ إنهم أصحاب العقول والقلوب الحية التواقة إلى ما عند ربهم من الخير. (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ.). فالحِجْر هو العقل. وسمي حجرا لأنه يمنع صاحبه من الوقوع في الشر والعبث.
ثانيا: مزايا العشر الأوائل
الناظر في هذه الأيام، يلاحظ أن الله تعالى خصها بمزايا كبيرة وفضائل معتبرة. نذكر منها:
1: فيها يوم عرفة. وهو اليوم العظيم الذي تجتمع فيه الآلاف من الخلق ويقفون حيث وقف إبراهيم الخليل ووقف الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، يقف الجميع متوجهين إلى الله بقلوب خاشعة، لا فرق بين عربي وعجمي… فيفرح بهم رب العزة ويباهي بهم ملائكته، ويغفر لهم ويعتق رقابهم من النار. ففي صحيح مسلم قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللّهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَإِنّهُ لَيَدْنُو ثُمّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟)، وفي موطأ الإمام مالك عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأى الشيطان نفسَه يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام…).
وهو يوم اكتمال الدين وإتمام النعمة على المؤمنين. ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين، لو أن علينا نزلت هذه الآية: (اليوم أكملتُ لكم دينك وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). لاتَّخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة، في يوم جمعة.
2: جمع الله فيها شعائره العظيمة:
تجدد كلمة التقوى، فالشهادتان تتجدد في هذه العواشر بشكل أقوى لما أمر الله تعالى به من الذكر في هذه الأيام. روى الإمام مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أفْضَلُ الدُّعاءِ دعاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وأفْضَلُ ما قُلْتُ أنا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ”
تضاعف منزلة الصلاة، والصلاة عبادة يومية متجددة كل وقت وحين. والله تعالى يضاعف أجرها في الأوقات الفاضلات بالقدر الذي يعلمه الله تعالى لسائر المؤمنين، ويضاعف الله فضلها لحجاج بيته إلى مائة ألف صلاة.
صيام ملفت للنظر، وجعل الله لصيام يوم عرفة لسائر المسلمين فضيلة تثير الانتباه والاهتمام. ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: سُئل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم عن صوم يوم عرفة؟ قال: «يُكَفّرُ السّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ».
فيها حج بيت الله الحرام، الذي قال فيه رب العزة: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) آل عمران 97.والذي قال فيه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (وَالْحَجّ الْمَبْرُورُ، لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاّ الْجَنّةُ).
ثالثا: في خاتمتها يوم من أعظم أيام الله.
يوم النحر، وهو يوم إحياء سنة إبراهيم الخليل، وإظهار طاعة الله والتقرب إليه سبحانه، إذ الغرض من الأضحية هو إظهار الاستسلام لله تعالى لا التفاخر.
وفيه يقدم المسلم أضحية لله تعالى وابتغاء وجهه سبحانه، وإحياء لسنة إبراهيم. روى ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن والحاكم، وقال صحيح الإسناد مرفوعاً: (ما عَمِل آدمي من عمل يومَ النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً)
وروى ابن ماجه والحاكم وغيرهما وقال الحاكم إنه صحيح الإسناد: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ما هذه الأضاحي؟ فقال سنة أبيكم إبراهيم. قالوا فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: بكل شعرة حسنة. قالوا: فالصوف؟ قال: بكل شعرة من الصوف حسنة)
ومن باب النصيحة أيها المؤمنون التذكير بثلاثة أمور بهذا الخصوص:
أولهما: أن يبتغي المسلم بأضحيته وجه الله لا السمعة، لا ما يقوله الناس. فإن الرياء مفسد للعمل مبطل للأجر.
ثانيهما: أن الأضحية سنة وليست واجبا، لذلك لا يجوز للمسلم أن يحمل نفسه ما لا يطيق، فيتكلف أكثر من قدرته.
ثالثا: من أغرب ما يحدث في زماننا إقبال عدد من الناس على المؤسسات الربوية التي تقدم قروضا بالربا لشراء أضحية العيد. وهذا من أعجب العجائب في زماننا. فكيف يعبد الله بما حرم الله؟ ألا فلتعلموا عباد الله أن الله طيب لا يقبل طيبا، وليعلم المتعاملون بالربا، الجادون في إغراق المسلمين في وحلها وفي شرها أن الله تعالى قال: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة 275.
رابعا: منزلة العمل فيها:
لما كانت هذه الأيام بهذه المكانة المذكورة كان العمل الصالح فيها ذا مكانة خاصة عند الله تعالى. ففي صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ مِنْها في هَذِهِ قالوا: وَلا الجهادُ فِي سَبيل اللّه؟ قال: وَلا الجِهادُ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِهِ وَمالِه فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ”. هذا لفظ رواية البخاري، وفي رواية الترمذي: “ما مِنْ أيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهنَّ أحَبُّ إلى اللّه تعالى مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ” وفي رواية أبي داود مثل هذه، إلا أنه قال: “مِنْ هَذِهِ الأيَّام” يعني العشر.
فهذه أيام اجتهاد وجد وتسابق إلى الخير من صلاة وصيام وصدقة وبر وصلة رحم وإحسان إلى الخلق، والعمل على تجديد التوبة إلى الله والسير إليه سبحانه.
د. عبد الرحمان بوكيلي